أرشيف منتدى الفصيح - 1

فهذه قصيدة فخرية كريمة بالشرط الإسلامي صدرت عن واقع لا محال؛ فخيار الناس في الجاهلية خيارهم إذا فقهوا، والشرف في الجاهلية لبني فهر، والوحي فيهم، والأئمة منهم، وهم القادة للأمة التي كوَّنت دولة، وغنمت رقعة، واتَّسمت بهوية سامقة .. وليس في فنه الفخري ما هو خلاف الواقع؛ فهل يُعدل هذا بفخر من ينحر الكوم المنهوبة وفيها حلوبة رضيع فقير، ثم يمنُّ على مَلإ بطنِ ضيفه بمثل قوله:

فَنَنْحَرُ الكُومَ عبْطاً في أرُومَتِنا ... للنّازِلِينَ إذا ما أُنزِلوا شَبِعُوا

فلا ترانَا إلى حَيٍّ نُفاخِرُهُمْ ... إلا اسْتقادُوا وكانوا الرأسَ يُقتطعُ

مع الكذب في البيت الثاني .. وقد أظهر الإسلام أن الفارس العربي المشحون بالإيمان قد يعدل مئات من فرسان الأمم الأخرى على سوء تغذيته، وضعف بنيته، وبدائية عُدَّتِه .. وقبل الإسلام كانت الفروسية النادرة تذهب هدراً بين أبناء العم المتكافئين، والغلبة في الأرض لغيرهم .. ولو جمعتهم الأمة الواحدة لا العشائرية المتناحرة لكانوا على الأقل قبل الإسلام دولة تحمي نفسها في أرضها، وتستثمر مهارتها ومواهبها ومواردها، ولكن حكمة الله أظهرت أن هذه الأمة العربية - التي جعلها الله مادة للإسلام، وشرَّفها وفضَّلها بدين خالد مهيمن حفظ لها لغتها - لا فلاح لها إلا بالشرط الإسلامي .. والتاريخ إلى هذه اللحظة ناطق بتأرجح العرب عزَّةً وذلةً بين الأمة المسلمة الواحدة والعشائرية المتناحرة.

ثم إن المتورخ يا أُخو رِفعة يحتاج إلى فراسة القاضي وصبره، واستنباط الفقيه وسعة علمه، وتوثيق المحدِّث وشدَّة تحرِّ يه، والتفريق بين جابر بن عبدالله وجابر بن زيد رضي الله عنهما، وعبقرية (كانط) في تحليل المعرفة، وثراء ممتع من العلاقات والفوارق بين العلوم .. وأنت أيها المُتَوْرِخ في عافية من ذلك، ولا توجد دلائل على النبوغ لتتعلَّم قبل أن تتكلم وأنت في سن الشيخوخة، والعوام يقولون: (القطو الكبير ما يِنْتربَّى!!)؛ فالْحَقْ ببني بكماء ألبتة ثلاثاً لا رجعة فيها، واحفظ عنَّي ما أقول لك على رغم أنفك، وأسامحك في عجز فكرك عما أقول:

((اعلم أن العرب ليس أباً، ولكنه وصف من الصحراء (عروبة) ولمن يسكنها من الأجناس الساميَّة البادية؛ فكانوا: عرباً بائدة أهلكها الله، وعرباً باقية تحدَّدَت بالعِرق وهم بنو عدنان وبنو قحطان من بني إسماعيل عليه السلام؛ فارتحل بنو قحطان إلى اليمن، وسميت مأرب بيعرب، وامتزجوا بمعينيين وأحباش وغيرهم، فاختلطت لغتهم .. ويوم كان تسلسل النسب في الجاهلية محفوظاً إلى عدنان وقحطان كان عدد الآباء متقارباً؛ فلما بدأ تحوُّل العرب من أمة إلى عشائريين وُجِد كذبة وضَّاعون أمثال ابن الحائك، فزادوا من خيالهم عشرات الآباء في أجداد القحطانية، وأضعاف هذه الزيادة لا توصِّلهم إلى هود عليه السلام .. وما قلتُه هو مذهب أهل الفقه والحديث وعدد من الصحابة رضي الله عنهم، وعليه البراهين العلمية .. وكتب الأنساب - ولا سيما كتب ما بعد القرن الخامس الهجري التي لا تتصل بالسند إلى الكتب والعلماء قبل ذلك - ليست هي الحقيقة التاريخية، ولكنها موضوع لمعيار الحقيقة بالنظر العلمي الفكري .. ونسبة قحطان إلى هود عليه السلام أضحوكة سببها (يقطين) في التوراة؛ فالترجمة لا تقبل ذلك، والواقع يحيله؛ فما بين إسماعيل عليه السلام ثم سليمان عليه السلام وملكة سبإ بلقيس وما بين هود عليه السلام قرون سحيقة مجهول بعضها، محال فيه النسب مسلسلاً إلى هود .. قال الله سبحانه وتعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} (38) سورة الفرقان .. والعرب المستعربة هم العرب الباقية عدنانيهم وقحطانيهم، والعرب البائدة هم العرب الذين تعلم إسماعيل عليه السلام من مأثور لغتهم السامية (من جرهم التي بادت فيما بَعْد) اللغةَ العربية حتى تميَّزت بالفصحى خلال قرنين أو أكثر قبل الإسلام .. والعرب العِرْق - أي العرب الباقية - قطعة من الذهب في زبالة من الجاهلية؛ لما فيهم من أمهات الخصال المحمودة المُهْدَرة في غير محلها؛ فالشجاعة ظلم وبأس بين ذوي القربى، وليست انتصاراً على أمم ظالمة، والكرم إسراف بمال حصل بالنهب والسلب، ثم يتبع ذلك الضجيج الشعري فخراً بالسرف وقتل ذوي القربى؛ فلما جاء الإسلام جعل هذه القطعة الذهبية إناء مسبوكاً

¥