فعندما كان أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما في المكان الذي اجتمعوا فيه عند ساحل البحر، مرت بهم قافلة تجارية لقريش بقيادة أبي العاص بن الربيع زوج السيدة زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت قد فارقته؛ لأنه كان مشركًا، وهاجرت وحدها إلى المدينة.
فهاجم أبو جندل ومن معه القافلة وأسروهم وأخذوا ما معهم من أموال، ولم يقتلوا منهم أحدًا إكرامًا لأبي العاص، وأخلوا سبيله
فقدم أبو العاص المدينة واستجار بزينب، فكلمت زينب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب قائلا: (إنا صاهرنا أناساً، وصاهرنا أبا العاص، فنعم الصهر وجدناه، وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش، فأخذهم أبو جندل وأبو بصير، وأخذوا ما كان معهم، ولم يقتلوا منهم أحدًا، وإن زينب بنت رسول الله سألتني أن أجيرهم، فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟)
فقال الناس: نعم. فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول الرسول صلى الله عليه وسلم أطلقوا من كان عندهم من أصحاب أبي العاص وردوا إليهم أموالهم.
ثم خرج أبو العاص حتى قدم مكة، فأدى إلى الناس بضائعهم، ثم أعلن
إسلامه، وعاد أبو العاص إلى المدينة مسلمًا، فرد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم زوجته زينب -رضي الله عنها-.
وأخيراً .. قد يشتاق البعض لمعرفة مصير ذلك المفاوض الصعب - سهيل بن عمرو – الذي قال عنه الرسول لما رآه: (قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل)
لقد كان سهيل هذا من أشد الناس عداوة للإسلام والمسلمين في صدر الإسلام، حارب الإسلام بيده ولسانه، ووقف في كثير من المواقف صلباً متشدداً لا يلين.
نشأ بجوار الكعبة ينحر بيده الذبائح لأصنامها ويستقبل الحجيج إليها وهم يأتون زرافات ووحدانا
وقع أسيراً بأيدي المسلمين في “غزوة بدر
اقترب عمر بن الخطاب” من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: “يا رسول الله .. دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو حتى لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم” ..
فأجابه الرسول العظيم: “كلا يا عمر .. لا أمثل بأحد، فيمثل الله بي، وإن كنت نبياً”!
ثم أدنى عمر منه، وقال صلى الله عليه وسلم: “يا عمر .. لعل سهيلاً يقف غداً موقفاً يسرك”!
وعند فتح مكة لما خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم زعماء مكة وأسيادهم قائلاً لهم: ما تظنون إني فاعل بكم
هنالك تقدم خصم الإسلام بالأمس “سهيل بن عمرو” وقال مجيباً: “نظن خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم”.
وتألقت ابتسامة من نور على شفتي حبيب الله وناداهم:
“اذهبوا .. فأنتم الطلقاء” .. !
لم تكن هذه الكلمات من الرسول المنتصر لتدع إنساناً حي المشاعر إلا أحالته ذوباً من طاعة وخجل، بل وندم ..
وفي نفس اللحظة استجاش هذا الموقف الممتلئ نبلاً وعظمة، كل مشاعر “سهيل بن عمرو” فأسلم لله رب العالمين.
وتحول واحد من كبار زعماء قريش وقادة جيوشها، وخطيبها المفوه إلى مقاتل صلب في سبيل الإسلام .. مقاتل عاهد نفسه أن يظل في رباط وجهاد حتى يدركه الموت على ذلك، عسى الله أن يغفر ما تقدم من ذنبه
وصدقت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ووقف سهيل بن عمرو في ذلك الموقف العظيم الذي يسر.
وقد سر به عمر بن الخطاب فعلاً والمسلمون جميعاً حين قام سهيل على باب الكعبة يوم أراد الناس أن يرتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
وصاح بالناس فاجتمعوا إليه فقال: يا أهل مكة لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد
والله ليتمن الله هذا الأمر كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلقد رأيته قائماً مقامي هذا وحده وهو يقول: “قولوا معي لا إله إلا الله تدين لكم العرب، تؤدي إليكم العجم الجزية والله لننفقن كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله ..
فكنا بين مستهزئ ومصدق، فكان ما رأيتم، والله ليكونن الباقي”.
فامتنع الناس عن الردة.
وكان يقول: والله لا أدع موقفًا وقفته مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين إلا أنفقت على المسلمين مثلها، لعل أمري أن يتلو بعضه بعضًا ..
ابن المبارك
ـ[لخالد]ــــــــ[22 - 12 - 2007, 09:17 م]ـ
جزاك الله خيرا
السيرة النبوية معين لا ينضب من الدروس و العبر.
ـ[أحاول أن]ــــــــ[22 - 12 - 2007, 09:24 م]ـ
بارك الله فيكم , وجزيتم خيرا كثيرا ..
ما أشد َّ حاجتنا إلى تدبر هذه القصص المؤثرة!
ـ[دعدُ]ــــــــ[23 - 12 - 2007, 03:14 ص]ـ
أكرمك الله وجعلك مباركًا أينما كنت أخي.
ـ[أبو محمد محيي الدّين]ــــــــ[23 - 12 - 2007, 12:53 م]ـ
بوركت ووفقك الله على هذه الوقفات المباركة
ـ[كرم مبارك]ــــــــ[26 - 12 - 2007, 05:57 ص]ـ
جزيتم خيراً جميعاً على مروركم الكريم وأحسن الله إليكم كما أحسنتم إلي