وغضب المسلمون من هذا الصلح، فقد بَدَت الشروط في أعينهم ظالمة، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يُضَيِّعني) [البخاري].
وموقف آخر عظيم تتجلى فيه سنة الإتباع للنبي صلى الله عليه وسلم
فبرغم إن المسلمين خرجوا من ديارهم يريدون العمرة وقد أحرموا وابتعدوا عن أهليهم وأولادهم أكثر من شهر، ومع شعورهم بالظلم الذي وقع عليهم من تلك الاتفاقية، وإحساسهم بأنهم على الأقل لو فازوا بعمرة برغم تلك الشروط لكان ذلك تعزية لهم مع كل هذا هاهو المنادى ينادي عليهم أن يذبحوا هديهم ويحلوا إحرامهم، وهذا معناه أن أمر العمرة انتهى وذهب جهدهم وتعبهم سدى
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتابة المعاهدة، قال للمسلمين: (قوموا، فانحروا)
وقالها ثلاثًا وطارت الكلمة بين الصحابة الألف والأربعمائة هنا وهناك، فلم يقم أحد ولم ينفذوا الأمر
فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس
فدلته أم سلمة على أسهل الطرق وأيسرها، فهي تعلم أن هؤلاء القوم يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة ولن يتوانوا عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم مصدومون ومحبطون ومع ذلك فلو رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك لقاتلوا في تقليده ..
فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدًا كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك.
فقام الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج فلم يكلم أحدًا حتى نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا يتسابقون فنحروا إبلهم، وجعل بعضهم يحلق لبعض
فسعد الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك جداً ودعا للمحلقين بالرحمة ثلاثاً
ولكن هل التزم المسلمون والمشركون بشروط هذه المعاهدة؟
لقد ضاق المسلمون المعذبون في مكة بمقامهم بعيدًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في المدينة، ففر منهم أبو بصير عبيد الله بن أسيد، وهاجر إلى المدينة يبغي المقام فيها مع المسلمين
فأرسلت قريش وراءه اثنين من رجالها، ليعودا به إليها تنفيذًا لشروط الصلح
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، فانطلق إلى قومك)
وحزن أبو بصير وقال: يا رسول الله أتردني إلى المشركين ليفتنوني في ديني؟
فلم يزد النبي صلى الله عليه وسلم عن تكرار رجائه في الفرج القريب، ثم أرسل أبا بصير مع القرشيين ليعودوا جميعًا إلى مكة، فاحتال أبو بصير أثناء الطريق على سيف أحد الحارسين وقتله به، ففر الآخر مذعورًا، ورجع إلى المدينة يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع من أبي بصير
وإذا بأبي بصير يطلع شاهرًا السيف يقول: يا رسول الله، وفت ذمتك وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم وامتنعت بديني أن أفتن أو يعبث بي
فقال صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه (كلمة مدح) مُسَعِّرُ حرب (أي مشعل حرب) لو كان معه رجال)
ففهم أبو بصير نية الرسول صلى الله عليه وسلم في رده إلى المشركين،
وأدرك أنه لا مقام له في المدينة، ولا مأمن له في مكة، فانطلق إلى ساحل البحر في ناحية تدعي (العيص) وشرع يهدد قوافل قريش بطريق الساحل
وفهم المستضعفون المسلمون في مكة إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم: (مسعر حرب ولو كان له أحدا)
فتلاحقوا به حتى اجتمع إليه نحو سبعين ثائرًا كان منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وكونوا جيشًا ضَيقَ على قريش فلا يظفر بأحد إلا قتله، ولا تمر بهم قافلة إلا اقتطعوها
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده أن يؤوي إليه هؤلاء فلا حاجة لها بهم.
وبذلك نزلت قريش عن الشرط الذي أملته تعنتًا وقبله المسلمون كارهين، وهذا هو أول الفتح على المسلمين، فقد تأكد لهم بعد ذلك أن المعاهدة كانت لصالحهم، وأنها أتاحت لهم فرصة لنشر دينهم بعيدًا عن الانشغال بالحرب مع قريش.
وموقف آخر عظيم نستمتع به حول مائدة الصحابة العظام الكبار،
فوالله ما وصل الدين إلينا إلا بسبب جهودهم وإخلاصهم وعظمتهم وحسن اتباعهم وتسلميهم لربهم ونبيهم عليه الصلاة والسلام
¥