[مقام القلم]
ـ[أبو سارة]ــــــــ[25 - 02 - 2008, 09:34 ص]ـ
السلام عليكم
ينعت الأدباء القلم بأنه أحد اللسانين، قياسا على لسان الإنسان الذي ينطق به ويعبر به عما يجيش في نفسه، والقلم واللسان وفق هذا التعريف شقيقان، من جهة أن وظيفة ومهمة كل منهما واحدة،إذ كل منهما أداة فاعلة للتعبير، وقد قيل: عقول الرجال تحت أقلامها، وقيل أيضا: الأقلام مطايا الأذهان، وكما أن المتكلم يستخدم لسانه لإبراز قدراته العقلية وبنيته الفكرية بل ويتعداهما إلى صفات الجسم والوجدان والعاطفة وهو يغرف فيض دواخل نفسه ليعرضها على أسماع السامعين حوله، فإن القلم أداة لا تقل شأنا عن أداء اللسان، إذ يكتب به الكاتب كلمات يظهر بها ما يريد قوله للقارئين آخذا أدوات الكتابة ومهاراتها بالاعتبار، ولا خلاف أن أدوات الاحتراف عند مستعملي القلم أكثر وأصعب من مستلزمات اللسان، وفضل القلم عن اللسان أعلى شأنا وأعلى مقاما وذلك لأسباب!
منها أن الكاتب المُجِيد ألصق بالعلم من المتكلم،وذلك لما يقتضيه تعلم الكتابة الأصيلة من مطالعة كتب العلماء وملازمة مجالسهم في التعليم، ومنها أنه أقرب إلى لغة البيان وإعمال الفكر واستعمال العقل، لأن المتكلم يلفظ الكلمات وأفكاره متقاطرة في سياق الموضوع وتلازمه، بينما الكاتب ينتقي من الكلمات ما يتوافق مع أصول الكتابة وفنون التعبير ليصل إلى الغرض المطلوب.
يقول زهير بن أبي سُلمى:
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه بالتكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وهذا الوصف الماتع الذي حققه الشاعر في استقلال صفة الكلام وقدرته على استحواذ نصف الإنسان وربطها بالفؤاد، قد لا نوافقه عليها كتعريف مطلق، فحصر النصف باللسان إنما جاء لأن الشعر عند الجاهليين هو ديوان العرب ومجمع علومهم وأخبارهم، والقدرة على حفظ الشعر تقتضي القدرة على الخطابة وتعلم فنون الكلام، ووفق هذا الموروث الثقافي فلا عجب أن سيادة اللسان هي صاحبة القيادة المطلقة في امتلاك نصف الإنسان.
لكنها سيادة لم تدم طويلا لأنها جاءت قبل استعمال العرب القلم في توثيق العلوم والمعارف والأخبار،وكما يقال: لكل عصر دولة ورجال! فبعد أن غزت جيوش العلم بعساكرها الفتاكة معاقل الجهل وحصون الأمية انتشرت الكتابة والعلم والتعلم انتشار النار في الهشيم بين الناس، والعربي القح الذي كان في الجاهلية وصدر الإسلام يترفع ويأنف عن الكتابة بحجة أنها صناعة من الصناعات وأنها من أعمال الخدم والمملوكين، لم يصمد على تلك النظرة بعد احتكاكه بالأمم والثقافات الجديدة وذلك بعد أن رأى الأعاجم – وهو لفظ يطلق على سائر غير الناطقين باللسان العربي - يتصدرون بتقييد علوم الإسلام والعرب، فما هي إلا شآبيب من السنين حتى تخلى العربي عن تلك الأنفة بعد أن تحقق له أنه أهمل جانبا مهما من إرثه التاريخي والأدبي والعلمي ووكل أمرها إلى غيره وهو المسؤول الأول عنها.
حينما أدرك العرب ذلك، هرعوا منطلقين على خطى الأعاجم ليتداركوا ما فاتهم بسبب الجهل والتقصير وربما العجز، فانكبوا على تعلم الكتابة وفنون التصنيف وتقييد العلم حتى صاروا هم الفرسان وسارت بعلمهم الركبان وحملت معالمهم وسيرهم الأزمان، ولله في خلقه شؤون.
إذا صح هذا، ففي تصنيف شاعرنا زهير بن أبي سلمى نظر!، لأنه قسم الإنسان إلى نصفين، لسان وفؤاد، وعد اللحم والدم في عداد العدم،إلا أن الواقع هو الحَكَم والتأريخ لا يَرحم، فخطباء العرب لم نسمع خطبهم إلا بلسان أقلام العلماء، وليس بمقدورنا أن نعرف شيئا عن سحبان وائل لولا أقلام أهل اللغة والأدب في مصنفاتهم، فهي مظان العلم ومستودع المعرفة، ولو كانت بالرواية فحسب فربما لحقت بذكر عاد وثمود.
قدمنا أن تفضيل القلم مقدم على اللسان لاقتران القلم بالعلم في أغلب الحالات،لكنه يتحد مع اللسان بأشياء كثيرة ننفرد بأعلاها وهو آفة الصمت عن الحق، فكما أن اللسان يخرس ولا يهمس ببنت شفة ويُجبر على عدم النطق لأسباب، فإن القلم يُقيّد ويشارك أخاه اللسان في الصمت للأسباب نفسها، فلا عجب أن يخضع القلم لقوانين الطبيعة من الرغبة والرهبة والمداراة فلا يكتب إلا ما يعجب الناس،ويقف فلا يكتب حرفا واحدا يمكن أن يغضب الناس عليه.
¥