و قد استفاض عن أهئمة أهل السنة – مثل: مالك بن أنس، و الأوزاعي، و ابن جريج، و سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، و وكيع بن الجراح، و غيرهم الكثير – قولهم (الإيمان قول و عمل).
و أرادوا بالقول: قول القلب و اللسان، و بالعمل: عمل القلب و الجوارح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " العقيدة الواسطية " (ومن أصول أهل السنة و الجماعة أن الدين والإيمان قول و عمل، قول القلب واللسان، و عمل القلب، واللسان، والجوارح)
فظهر أن اسم الإيمان يشمل كل ما أمر الله به و رسوله من: الاعتقادات و الإرادات، و أعمال القلوب، وأقوال اللسان، و أعمال الجوارح أفعالاً و تروكاً، فيدخل في ذلك فعل الواجبات و المستحبات، وترك المحرمات، والمكروهات، وإحلال الحلال، و تحريم الحرام.
و هذه الواجبات والمحرمات، بل و المستحبات والمكروهات، على درجات متفاوتة تفاوتاً كبيراً.
وبهذا يتبين أنه لا يصح إطلاق القول بأن العمل شرط صحة أو شرط كمال بل يحتاج إلى تفصيل؛ فإن اسم العمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، و يشمل الفعل و الترك، و يشمل الواجبات التي هي أصول الدين الخمسة، وما دونها، و يشمل ترك الشرك و الكفر و ما دونهما من الذنوب.
فأما ترك الشرك و أنواع الكفر والبراءة منها فهو شرط صحة لا يتحقق الإيمان إلا به.
و أما ترك سائر الذنوب فهو شرط لكمال الإيمان الواجب.
وأما انقياد القلب – وهو إذعانه لمتابعة الرسول صلى الله عليه و سلم و ما لابد منه لذلك من عمل القلب كمحبة الله ورسوله، و خوف الله و رجائه – و إقرار اللسان – و هو شهادة أن لا إله إلا الله، و أن محمد رسول الله – فهو كذلك شرط صحة لا يحقق الإيمان بدونهما.
وأما أركان الإسلام بعد الشهادتين فلم يتفق أهل السنة على أن شيئاً منها شرط لصحة الإيمان؛ بمعنى أن تركه كفر، بل اختلفوا في كفر من ترك شيئاً منها، و إن كان أظهر و أعظم ما اختلفوا فيه الصلوات الخمس، لأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، و لما ورد في خصوصها مما يدل على كفر تارك الصلاة؛ كحديث جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: (بين الرجل و بين الشرك و الكفر ترك الصلاة) أخرجه مسلم في صحيحه و غيره، و حديث بريده بن الحصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه نو سلم (إن العهد الذي بيننا و بينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) أخرجه أصحاب السنن.
وأما سائر الواجبات بعد أركان الإسلام الخمسة فلا يختلف أهل السنة أن فعلها شرط لكمال إيمان العبد، و تركها معصية لا تخرجه من الإيمان.
و ينبغي أن يعلم أن المراد بالشرط هنا معناه الأعم، و هو ما تتوقف الحقيقة على وجوده سواء كان ركناً فيها أو خارجاً عنها، فما قيل فيه هنا أنه شرط للإيمان هو من الإيمان.
و هذا التفصيل كله على مذهب اهل السنة، والجماعة فلا يكون من قال بعدكم كفر تارك الصلاة كسلاً أو غيرها من الأركان مرجئاً، كما لا يكون القائل بكفره حرورياً.
و إنما يكون الرجل من المرجئة بإخراج أعمال القلوب و الجوارح عن مسمى الإيمان فإن قال بوجوب الواجبات، و تحريم المحرمات، و ترتب العقوبات فهو قول مرجئة الفقهاء المعروف و هو الذي أنكره الأئمة، و بينوا مخالفته لنصوص الكتاب و السنة.
و إن قال: لا يضر مع الإيمان ذنب، و الإيمان هو المعرفة، فهو قول غلاة المرجئة الجهمية و هم كفار عند السلف.
و بهذا يظهر الجواب عن مسألة العمل في الإيمان هل هو شرط صحة أو شرط كمال، و مذهب المرجئة في ذلك و هذا و لا أعلم أحداً من الأئمة المتقدمين تكلم بهذا، و إنما ورد في كلام بعض المتأخرين.
و بهذا التقسيم و التفصيل يتهيؤ الجواب عن سؤالين:
أحدهما: بم يدخل الكافر الأصلي في الإسلام، و يثبت له حكمه؟
والثاني: بم يخرج المسلم عن الإسلام، بحيث يصير مرتداً؟
فأما الجواب عن الأول:
فهو أن الكافر يدخل في الإسلام، ويثبت له حكمه بالإقرار بالشهادتين (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) فمن أقر بذلك بلسانه دون قلبه ثبت له حكم الإسلام ظاهراً، و إن أقر بذلك ظاهراً و باطناً كان مسلماً على الحقيقة و معه أصل الإيمان، إذ لا إسلام إلا بإيمان، و لا إيمان إلا بإسلام.
¥