صاحبها من إحدى الثلاث وسبعين فرقة.
ومن الناس من تبع هؤلاء وناصرهم وقوى سوادهم بالتدريس والتصنيف، ولكنه عند نفسه راجع إلى الحق، وقد دس في تلك الأبحاث نقوضها في مواضع، لكن على وجه خفي، ولعله تخيل مصلحة دنيئة، أو عظم عليه انحطاط نفسه، وإيذاؤهم له في عرضه، وربما بلغت الأذية إلى نفسه، وعلى الجملة، فالرجل قد عرف الحق من الباطل وتخبط في تصرفاته، وحسابه على الله سبحانه، إما أن يحشره مع من أحب بظاهر حاله، أو يقبل عذره، وما تكاد تجد أحدا من هؤلاء النظار إلا قد فعل ذلك، لكن شرهم والله كثير، فلربما لم يقع خبرهم بمكان، وذلك لأنه لم يفطن لتلك اللمحة الخفية التي دسوها إلا الأذكياء المحيطون بالبحث، وقد أغناهم الله بعلمهم عن تلك اللمحة، وليس بكبير فائدة أن يعلموا أن الرجل كان يعلم الحق ويخفيه، والله المستعان.
ومن الناس من ليس من أهل التحقيق، ولا هيئ للهجوم على الحقائق، وقد تدرب في كلام الناس، وعرف أوائل الأبحاث، وحفظ كثيرا من غثاء ما حصلوه، ولكن أرواح الأبحاث بينه وبينها حائل، وقد يكون ذلك لقصور الهمة والاكتفاء والرضا عن السلف لوقعهم في النفوس، وهؤلاء هم الأكثرون عددا، والأرذلون قدرا؛ فإنهم لم يحظوا بخصيصة الخاصة، ولا أدركوا سلامة العامة، فالقسم الأول من الخاصة مبتدعا قطعا والثاني ظاهره الابتداع والثالث له حكم الابتداع.
ومن الخاصة قسم رابع، ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، أقبلوا على الكتاب والسنة وساروا بسيرها، وسكتوا عما سكتا عنه، وأقدموا وأحجموا بهما، وتركوا تكلف ما لا يعنيهم، وكان تهمهم السلامة، وحياة السنة آثر عندهم من حياة نفوسهم، وقرة عين أحدهم تلاوة كتاب الله تعالى، وفهم معانيه على السليقة العربية والتفسيرات المروية، ومعرفة ثبوت حديث نبوي لفظا وحكما؛ فهؤلاء هم السنة حقا، وهم الفرقة الناجية، وإليهم العامة بأسرهم، ومن شاء ربك من أقسام الخاصة الثلاثة المذكورين، بحسب علمه بقدر بدعتهم ونياتهم ... ".
والمقصود هنا أنه لما كان العامة هم الأكثر قديما وحديثا وكذلك الخاصة في القرون المتقدمة؛ كان أهل السنة هم الأكثر في الأمة، وهم السواد الأعظم، ومن عداهم كانوا هم الشواذ وهم أهل الفرقة والاختلاف، ثم إنه لابد من ذكر أصلين لاعتبارها في إنزال الأحكام:
الأصل الأول: أن أهل البدع فيهم المنافق الزنديق، فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة، ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان وتقوى باطنا وظاهرا لكن فيه جهل وظلم جره إلى الخطأ ومجانبة السنة؛ فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقا أو عاصيا، وقد يكون مخطئا متأولا مغفورا له خطأه، ومن هذا حاله فإنه يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه.
والأصل الثاني: أن المقالة تكون كفرا كجحد ما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكتحليل ما حرم الله تعالى؛ كالزنا والخمر والميسر والربا، ثم القائل بها لا يكفر إن كان حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه الشريعة فيها، أو كان في زمن الفترات، فهذا لا يحكم بكفره لما جحده عن جهل بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج:6 ص:61:
"فإذا رأيت إماما قد غلظ على قائل مقالته أو كفره فيها؛ فلا يعتبر هذا حكما عاما في كل من قالها، إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه والتكفير له، فان من جحد شيئا من الشرائع الظاهرة وكان حديث العهد بالإسلام أو ناشئا ببلد جهل؛ لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية.
وكذلك العكس إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت لعدم بلوغ الحجة له؛ فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول، فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك، ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم، فهذا أصل عظيم فتدبره فانه نافع.
¥