وكان الإمام شعبة بن الحجاج بن الورد الذي يقول فيه سفيان الثوري: (أمير المؤمنين في الحديث)، وكان يهابه ويجلّه، كان شعبة –رحمة الله عليه- لا يردّ سائلاً سأله، حتى إنه دخل عليه رجل وبكى واشتكى أن دابته فُقدت عليه، فسأله كم قيمتها، قال: ثلاثة دنانير، فأدخل يده في جيبه وقال: هذه ثلاثة دنانير، والله لا أملك غيرها ([74]).
كانوا يُضحّون ويتصدق أحدهم بنصف ماله، بل ربما خرج عن ماله كله؛ لأن العلم إذا أثرّ انكسر القلب لله جل جلاله، فلم يبال بالدنيا جاءت أم ذهبت، والذي ضرنا ركوننا إلى الدنيا.
فالأعمال الصالحة تقرب الإنسان من الله، وتزيده قربة منه سبحانه وتعالى، ولعله تصيبه دعوة تكون مستجابة عند الله سبحانه وتعالى.
وقلّ أن تجد عالماً يحسن إلى الناس إلا وجدته في أعلى المراتب والقبول له كأحسن وأجمل ما يكون له القبول.
جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل، وهي مواقف تنبئ عن الرحمة بالمسلمين.
الفصل الثالث
معالم في آداب طالب العلم في درسه
المَعْلَمْ الأول: أخذ العلم فنّاً فنّاً.
المَعْلَمْ الثاني: الاجتهاد في ضبط العلم.
المَعْلَمْ الثالث: عدم الاستعجال في النزول للساحة.
المَعْلَمْ الأول: أخذ العلم فنّاً فنّاً:
فإن أفضل شيء أخذ الفن الواحد وإتقانه ([75])، ثم يأخذ غيره.
قال البعض:
وفي ترادف الفنون المنع جا إذ توأمان اجتمعا لن يَخرجا
فضبط الفن الواحد، ثم ضبط ما سواه أنفع، ويستثنى من هذا الأصل إذا كان عند الطالب ملكة قوية في الضبط وتفرّغ، واستطاع أن يجمع بين فنين أو أكثر، فلا حرج؛ لأن الملكة تختلف، أو كان طالب العلم لا يجد في بلده ولا يتيسر له وجود العلماء، فيتغرّب السنة والسنتين في ديار العلم، فيحتاج أن يقرأ أكثر من فن وعلم؛ لأنه محتاج إلى ذلك، فهذا لا حرج عليه أن يجمع بين علمين.
المَعْلَمْ الثاني: الاجتهاد في ضبط العلم ([76]):
كم نجلس من مجالس الدنيا، فنسمع فيها فضول الأحاديث والأخبار، ولو سألت الواحد عن خبر من الأخبار لقصه عليك لا يخرم منه حرفاً واحداً.
ثم نجلس مع العلماء الأجلاء وأهل الفضل الذين هم على علم بالكتاب والسنة، ينثرون درر الكتاب والسنة، ولا نرفع بذلك رأساً!
والله إذا بلغ الإنسان إلى هذا المقام فليبكي على نفسه؛ لأن الله حرَمِه التوفيق، إذا جلست في مجالس العلم فرأيت قلبك لم يعي ذلك العلم، فابكِ على نفسك، فلعل ذنباً حال بينك وبين ذلك الخير.
ومما يعين الطالب على ضبط العلم: استشعاره أن كل حكمة يضبطها أنها قربةٌ وطاعةٌ لله تعالى، فيشفق على نفسه من أن تفوته فائدة واحدة يحفظها غيره وهو لم يحفظها، فلعله يقوم من المجلس وهو أرفع قدراً عند الله سبحانه وتعالى منه ([77])، فيحرص على أن لا تفوته كلمة، ولا يفوته ضبط لمسألة أو تحليل لقاعدة في ذلك المجلس، وهذا من محبة الله للعبد، فإذا رأيت الله جل جلاله يشرح صدر طالب العلم فلا تفوته كلمة، ولا تفوته نادرة، يضبط حق الضبط، ويحصل حق التحصيل، فاعلم أن الله سيبارك في علمه، ولذلك ما نبغ من السلف ولا أشتهر من الأئمة إلا من كان بهذه المثابة، وربما أتاهم الخبر أن للعالم فلاناً مجلساً عُقد لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد كذا، فيتركون طعامهم، وينطلقون إلى ذلك العالم لضبط العلم، كل ذلك طلباً لمرضاة الله.
ولذلك بارك الله لهم، وألقى لهم المحبة بين الناس، ووضع لهم القبول بين عباده. نسأل الله العظيم أن يمنّ علينا بواسع رحمته ([78]).
وفي حديث أنس عن زيد في الصحيحين (قال: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية)، انظر إلى الدقة والهمة في ضبط المسائل والسنة.
وهذه خصلة طيبة في طالب العلم أن يكون دقيقاً في المسائل والنصوص، وهي أحظ في العلم وأكثر نبوغاً وفهماً ([79]).
المَعْلَمْ الثالث: عدم الاستعجال في النزول للساحة:
فإطالة الوقت في الطلب فيها خير كثير للطالب، والذي أضر الكثيرين خروجهم إلى الساحة، ولما يأخذوا قسطاً من كمال العلم فأضرَّوا باستعجالهم، ولم يثق الناس بعلمهم، وفي الحكمة: (حب الظهور قصم الظهور).
وكان العلماء –رحمة الله عليهم- يعنون بإطالة الزمن في الطلب ([80]). وفي أبيات الشافعي المشهورة ما يؤيد أن من شروط نيل العلم طول الزمن في الطلب ([81]):
أخي لن تنالَ العلمَ إلا بستةٍ
¥