فلنتّقِ الله في هذه المجالس، ونراقب الله في المناقشات التي لا يراد بها وجه الله، لو أن طلاب العلم إذا جلسوا تذاكر كل بما سمع من شيخه، واستمروا على ذلك، وأصبح هذا ديدنهم وشأنهم، لوجدوا عاقبة وثمرة العلم من: انشراح الصدر، وعلوّ الدرجة، ولم يمرّ يوم أو أسبوع إلا وقد ازداد طالب العلم بما يرفعه الله به درجات، فإن شئت فاستقلّ أو استكثر. ونسأل الله العظيم أن يعصمنا وإياكم من هذه الآفات. والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن:
أرجو أن تدلونا على كتاب يكون -بعد عون الله تعالى- عوناً على تحضير دروس بلوغ المرام على النمط الذي نسمعه من فضيلتكم ([139])؟
الجواب:
الحقيقة: الطريقة الأكمل والأفضل قراءة الحديث وضبط نصّه وحفظه، ثم يقرأ شرحاً مفصلاً للحديث، ولمعاني الألفاظ، بحيث يكون عنده تصور مبدئي، ثم بعد ذلك يتفرغ للشرح الذي يسمعه.
فإن حصلت عنده إشكالات، يكون قد تهيأ لسماع الأجوبة عليها، فإن وجد فيها ما يحل هذه الإشكالات ويزيلها فالحمد لله، وإلا تداركها بالسؤال بعد الدرس.
وأما الرجوع للمطولات في البداية، فإنها تُربك طالب العلم، وطلاب العلم لهم ثلاثة أحوال:
المرتبة الأولى: مرتبة البداية، ويكون الطالب لا يميز بين الأدلة، ولا يعرف قويها من ضعيفها، ولا جهة دلالتها.
فهذا يقتصر على الخلاصة من الدرس، والراجح من الأحكام مع دليله، ولا يتعرض للأقوال ومناقشة أدلتها؛ لأنه لا يكلف بها.
كما ذكر هذا الإمام ابن القيم في (إعلام الموقّعين)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في (المجموع) في أكثر من موضع، إن شأن هذا: الاكتفاء بقول عالم مع معرفة دليله، ويسير على هذا الشرح بقول واحد ودليله، ويبقى حتى يصل إلى درجة الاتّباع.
وبعد أن يعرف الفقه بكماله، أو يقرأ كتاباً في أحاديث الأحكام بكامله، يكون عنده تصور مبدئي، يصبح بعد هذا وقد أخذ الفقه بدليله ممن يوثق به، وضبطه على نمط معين.
فإذا لقي الله عز وجل وسأله عن هذا الذي يقوله أو يفعله أو يفتي به، ذكر حجته ودليله بين يدي الله عز وجل.
وإذا كان لا يحسن النظر وفهم الدليل، فقد احتج بما كلف بالرجوع إليهم في قوله تعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [النحل:43].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: إجماع السلف على هذا: كانوا يأمرون العوام بالرجوع إلى أهل العلم، ولا يكلفوهم باجتهاد ولا بنظر.
المرتبة الثانية: وهي الاتّباع وفهم الدليل: لا يعرف وجه الأدلة، ومراتب الدلالة، وكيفية التعامل مع النصوص المتعارضة، والترجيح، ولكنه يفهم الدليل ووجه دلالته، وإذا جاءته أقوال عديدة يتشتت ويتذبذب، ولا يستطيع أن يقف بين فحول الأئمة وينتقي من أقوالهم وترجيحاتهم، فهذا شأنه أن يأذ كل قول بدليله.
فتتعبد الله بقول أو بحجة من كتاب أو سنة، ولا تذهب لشيخ آخر حتى لا تتشتت، فقد يكون الشيخ الأول يعتبر دلالة المفاهيم، والثاني لا يعتبرها، فلا تثبت على طريقة، تارةً تتعبّد الله بدليل، وتارةً تتركه، وهذا تناقض منَع العلماء منه، وهو التنقل والتلفيق بين أقوال العلماء.
وهذه مرتبة المتبع: عنده إلمام بالدليل دون الترجيح بين أنواع الأدلة، وهذه حالة كثير من طلاب العلم المتقدمين، ولذلك بعضهم يتذبذب؛ لأنهم يدخلون على الخلافات والأقوال قبل أن يكون عندهم تصور لأدلة ومسالك الفقهاء.
فإذا قرأت الفقه بقول عالم ودليله -كما كان السلف يفعلون- دون تعصب، فأنت متبع، ولا مانع أن تلقى الله بقول أحمد، أو الشافعي، أو مالك، أو أبي حنيفة، بالدليل، فهم أئمة يقتدى بهم، وأجمعت الأمة على أخذ علم هؤلاء وجلالتهم.
فتسير في فقهك بضوابط وأصول منضبطة مرتبة، حتى تصل إلى مرتبة الاجتهاد.
والذي ضرّ الكثير من طلاب العلم: الاجتهاد في هذه المرحلة، فيملّ ويسأل ويحتار، خاصة في مسائل البيوع والمعاملات.
ولذلك تجد بعض الطلاب يقول في مسألة كذا: أنا متحير، لا أدري أين الحق ولا أين الراجح، أو يرجح بهواه، فيقول: هذا أقوى في نظري من هذا، ولكن بالهوى -والعياذ بالله- لا بالحجة والبرهان؛ لأنه لا يملك الملكة التي تجعله يرجح بضوابط معينة.
¥