وبعض الأدلة كلها من القوة بمرتبة واحدة، ولكن بعضها ألصق بالقواعد والأصول من بعض، والله يقول: ((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)) [الأنبياء:79]، فجعل خلاف الفقه فيه حجة لكل قول، ولكن جعل التفهيم لسليمان، وأثنى على الجميع.
فالمقصود أن طالب العلم في هذه المرتبة الاتباع، لا يحتار، بل يعرف ويضبط مسالك وطرق العلماء في الاستدلال، إن سار على هذا الضابط سلم، مثلاً: مفهوم الصفة أنه حجة، تقول: (في السائمة الزكاة)، أنها إذا لم تَرْعَ أكثر الحول لا زكاة فيها، فتعتبر مفهوم الصفة هنا في باب الزكاة، وتعتبره في أبواب المعاملات كما اعتبرته في العبادات.
لكن لو تنقلت بين عالمين: أحدهما يرجح مفهوم الصفة مثلاً، والآخر لا يقول به، وقلت بأقواله في المعاملات؛ لقوته فيها وتمرسه، فتردّ نصوصاً فيها حجة المفهوم الذي تعتبره في العبادات ولا تعتبره، ولا تتعبد الله به في المعاملات، فيصبح هذا تناقض، وهذا الذي جعل العلماء -رحمة الله عليهم- يمنعون من التلفيق بين أقوال العلماء والمذاهب في بداية التفقه.
ومن بلغ مرحلة أن يجتهد ويقف أمام ترجيحات الفقهاء، وكانت عنده ضوابط ومسالك يسير بها في اجتهاداته، وكذلك ملكة يعلم بها قوة وضعف أدلة الخصم، فإذا بلغ هذه المرتبة، ينتقل للمرتبة الثالثة، وهي:
المرتبة الثالثة: الاجتهاد.
أما أن تكون في مرتبة الاتّباع وتجتهد، فلا، والله، لشرفٌ لك أن تقول: اتبع قول فلان -وتراه موثوقاً بعلمه وديانته من علماء السلف، أو من العلماء المعاصرين ممن شُهد لهم بالضبط والتحري، فتبقى على قوله بالدليل- من أن تجتهد ولستَ من أهل الاجتهاد، فإذا انتهيت من الفقه وعلم هذا الشيخ أو ذاك وتصورته على هذه الطريقة، إذا بك وجميع مسائل الفقه منحصرة عندك بضوابط معيّنة، وتجدك اكتملت عندك الصورة، وتصورت الفقه بأكمله على نمط معين مؤصَّل على منهج السلف، ولذلك انظروا للأئمة، ما منهم إلا وكان له مذهب معين.
فمثلاً شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله انظر إليه في (المجموع): قال أصحابنا، وارتضاه أصحابنا، وهو الصحيح من أقوال أصحابنا.
بل إنه يجتهد في المذهب، فيقول: والصحيح من مذهب أحمد كذا، وغلط بعض أصحابنا في كذا وكذا، ويقول: ومن قال أن مذهب أحمد كذا فقط غلط لكذا وكذا. فتجده حجة في مذهبه، حجة خارجاً عن مذهبه.
كما في الإنصاف للمرداوي -رحمة الله عليه- إذا ذكر الخلافات داخل المذهب وقال: قال الشيخ، فمراده: شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، ويقطع ويقوي قوله بترجيحات شيخ الإسلام ابن تيمة، لماذا؟. لأنه قرأ علم إمام من الأئمة المشهود لهم بالإمامة والاقتداء بهم بالدليل، فوضع الله له البركة والخير في علمه.
ولا شك أن طالب العلم حينما يقرأ مثلاً أركان الصلاة بدليل في مذهب واحد، ليس مثل أن يقرأها في المذاهب الأخرى بأدلة متباينة متعارضة، فكيف يضبط؟! وهكذا طالب العلم، إذا لم يستطِع التمييز بين الأدلة يكتفي بالقول الراجح بدليله، ويمضي ويبقى على هذا، ويسير حتى ينتهي من الفقه كله، ويتصور أبوابه ومباحثه، ولا يهمك نقد غيرك لك، يلومك من يلومك، ويسفّه رأيك من يسفّهه، لا شأن لك به، كلنا أخذ الفقه بهذه الطريقة، كنا نأخذ على مشايخنا ونضبط أقوالهم، بالدليل لا مجرد أقوال رجال، لا .. بل بالدليل.
فلما انتهينا أصبح الفقه أمامنا منضبط، وبعد أن قرأنا على مشايخنا، وجدنا أقوال وأدلة تخالف ما كنّا تلقيناه على مشايخنا، فأخذنا بها وتركنا ما كنا عليه وخالفناهم؛ لقوة أدلتها، وما نقص ذلك من قدرهم ومنزلتهم في قلوبنا، أبداً والله، ولكن الحق أحبّ إلينا من كل أحد.
فلذلك: الطالب الذي يأخذ منهج معيّن، يفيد ويستفيد، ويصل إلى مرتبة الفقيه، وأما من يسلك كل يوم طريق ويتذبذب، لا تجد له أصلاً.
وخذ طالب علم ممن سار على هذا المنهج الغير منضبط، وناظره في مسألة معيّنة، لا تجد له أصلاً ثابتاً، ولا تخرج مع بنتيجة، وتجده عائماً ليس له ميزان تصل مع إليه فيعذرك وتعذره في المسألة، أو تصلا إلى قول فصل في القضية، والسبب هو أن الأساس الذي سار عليه هو: التلقي من مشارب مختلفة في بداية الطلب، فيواجه أقوال وإشكالات يوردها جهابذة العلماء، لا يحسن فهم توجيهها، ولا الخروج منها.
¥