ومن أهمّ الإعدادات اللازمة للمحقِّق - مضافاً إلى الدقّة والصبر والتواضع والإخلاص - هو المعرفة التامّة بالفنّ المصنَّف فيه ذلك الكتاب، كي يكون واقفاً على أسراره وأبعاده الاصطلاحية التي لا يعرفها إلّا أهل الفنّ، ويُطبّقها على النصّ الذي يريد تحقيقه.
كما أنّ الإلمام بأكثر علوم الإسلام، أمر لازم للمحقّق، خصوصاً العلوم الأدبية العربية، وأهمّها النحو والصرف والبلاغة، والأدب العام، والتاريخ والخط، والضبط، والقرآن وعلومه، والحديث والرجال، كلّها من الضرورات التي لابدّ أن يتمتّع المحقّق للنصوص بشي ءٍ وافرٍ منها، لأنّ الثقافة الإسلامية تعتمد على هذه العلوم بشكل واسع، وهي من المعارف التي كان يلمّ بها كلّ مثقفٍ مسلم في قرون الازدهار، وتنعكس آثارها بقوّة على حياتهم، فضلاً عن جهودهم المكتوبة.
* * *
وبالرغم من توجّه الكثيرين من مثقّفي الأمّة إلى العمل في مجال تحقيق النصوص، وإبداعهم في إحياء عيّنات كثيرة من الكتب طوال القرن الرابع عشر الهجري - العشرين الميلادي - فيها ما يمتاز بالروعة والجودة، ويستحقّ الإكبار والتمجيد، ويكشف عن قدرات فائقة للمحقّقين لها، يذكرون من أجلها، ويشكرون عليها.
فإنّ هذا الفنّ - ككثير من الفنون والعلوم - لم يخلُ من التطفّل على موائده والتدخّل في ساحته المقدّسة، وعلى أيدي أُناس لا يحسّون بأدنى مسؤولية، ولا يعلمون عن «صعوبة المهمّة وخطورة الهفوات» شيئاً، لو أحسنّا الظنّ بهم.
وقد تردّى الوضع في هذا المجال، إلى حدّ دفع بعض أصحاب المؤسسات المدّعية «لإحياء التراث» وهو ممّن يشجِّع المتطفّلين للتكثير من العمل الهابط، ليُضْفي غطاءً على فضائح مؤسّسته، يحسب أنّ: «البلية إذا عمّت طابت».
إنّ تردّى أوضاع العمل في مجال «تحقيق النصوص» أدّى إلى ذلك الُمجرم أن يقول: «لا أشتري ألفي محقّقٍ، بفَلْسٍ واحِدٍ».
وهكذا يرخّص القزْمُ من شأن هذا العمل المقدّس والعاملين فيه، لأنّه يستخدم كلّ يوم مَنْ يشتهي من باعة سوق الخُضَر، للعمل في تحقيق تراثه! يريد بذلك التأثير على سمعة العلماء الأجلّاء الذين يعملون في هذا الفنّ الجليل والعمل الديني النبيل.
ولا يدري - كافأه اللَّه - أنّ هذا العمل هو جزء من إحياء الدين، الذي يعلو ولا يُعلى عليه.
ومن جانب آخر:
نجد الزخم الذي ينشر من الكتب التراثية، وبالتحقيقات الهزيلة، ممّا يندى له جبين العلم، ويجعل الحديث عن ذلك، والتفصيل عن مآسيه، موجباً للنفرة والتقزّز.
مع أن هذا لا يعني الإطلاق؛
ففي الوقت والآخر نجد عملاً جيّداً فخماً وبأيدٍ أمينة من فطاحل العلم والقلم، يُضي ء الفضاء العلمي والتراثي، ويثلج الصدر، ويحيي الأمل في القلوب، وكذلك نجد في المحقّقين الناشئين تطلُّعاً إلى الانقطاع إلى هذا الفنّ الذي أصبح - لتطفّل الجهلة عليه - مظلوماً ومُهاناً.
فنحن ندعو المخلصين لهذا التراث وهذا الدين وهذه الحضارة، أن لا يتهاونوا في هذا العمل، ويلتفتوا إلى «صعوبة المهمة وخطورة الهفوات».
وليعلم الإخوة أنّ هذا الفنّ - ككلّ عملٍ وفنٍّ وصنعةٍ - بحاجةٍ إلى مُرْشِدٍ يقوم بإراءة الخطوات الاُولى والإرشادات العامّة والخاصّة، وأنّ الأمر أعزُّ وأخطر وأصعب من الدخول فيه بغير عُدّة واستعداد.
* * *
ولم نجد في التصدّي لما يصدر من الأعمال الهزيلة، فائدةً علميّة، ولا عمليّة، ولعدم تفرّغنا لذلك، مع ما في مثل ذلك من تحسّس العاملين والناشرين، ممّا نبرّئ أنفسنا ونيّاتنا منه، فاللَّه يعلم أنّا لا نقصد من عرض ما نقوله إلّا الحقّ وخدمة مصادر الدين، وإرشاد مَنْ يعمل في هذا المضمار المقدّس.
إلّا أنّا لمّا نقف على أعمال تمسُّ النصوص المقدّسة، الداخلة في إطار القرآن وعلومه، أو الحديث وعلومه، فإنّا لا تأخذنا في ذلك لومة لائم، فذلك أعزّ علينا من المؤاخذات والعتاب.
فنرجو أن ينتبه لهذا أصحاب الأعمال المعروضة في هذا الباب (باب النقد العلمي) الذي لم نفتحه - منذ العدد الأوّل - ونحن نفتقده، والعلم والعلماء بحاجةٍ ماسّة إليه، لما فيه من دَعْم وتقويم وتصحيح للمسار العلميّ، وإرشاد وتوجيه للسائرين عليه.
ونقدّم في هذا العدد، نقدين لعملين صدرا حديثاً:
أحدهما: تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين، للإمام الحاكم الجِشُميّ (الشهيد 494ه)، وهو جهد قرآني.
ثانيهما: عيون المواعظ والحِكم، للمحدِّث الواسطي، وهو جهد حديثي.
نرجو أن ينفتح لهما صدر العاملين في مجال التحقيق ليكون ما جاء فيهما درْساً للإخوة الزملاء، والناشئين الأحبّاء، وتذكرةً للعلماء والفضلاء والمحقّقين الأكفاء، ونسأل اللَّه التوفيق وهو قريب مجيب الدّعاء.