انتهى.
والآن وبعد هذه الرحلة القصيرة، التي لقي القارئ الغيور منها نصباً، لنستمع إلى شيخ المحققين العلامة المحدث الفقيه الأديب الأريب الغيور على دينه ولغة دينه وتراث أمته، أحمد محمد شاكر رحمه الله؛ عسى أن نجد في سماع كلمته بعض ما يعزينا ولو قليلاً أو ينسينا هذه الهموم ولو إلى حين.
قال الشيخ العالم الجليل أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى في مقدمته على (سنن الترمذي) (1/ 16) وما بعدها:
(تصحيح الكتب وتحقيقها من أشق الأعمال وأكبرِها تبعة، ولقد صور أبو عمرو الجاحظ ذلك أقوى تصوير، في كتاب (الحيوان) فقال (ج1ص79من طبعة أولاد السيد مصطفى الحلبي بمصر):
"ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفاً، أو كلمة ساقطة، فيكون انشاء عشر ورقات من حُرِّ اللفظ وشريف المعاني: أيسر عليه من إتمام ذلك النقص، حتى يرده الى موضعه من أمثلة الكلام، فكيف يطيق ذلك المعارِض المستأجَر، والحكيم نفسه قد أعجزه هذا البابُ! وأعجب من ذلك أنه يأخذ بأمرين: قد أصلح الفاسدَ وزاد الصالحَ صلاحاً، ثم يصير هذا الكتابُ بعد ذلك نسخةً لانسان آخرَ، فيسير فيه الوراق الثاني سيرة الوراق الأول، ولا يزال الكتاب تتداوله الأيدي الجانية، والأعراض [كذا بالعين المعجمة] المفسدة، حتى يصير غلطاً صِرفاً، وكذباً مصمتاً، فما ظنكم بكتاب تتعاقبه المترجمون بالإفساد، وتتعاوره الخُطّاط بشرٍّ من ذلك أو بمثله، كتابٍ متقادم الميلاد، دُهْريِّ الصنعة! ".
وقال الأخفش: " اذا نُسخ الكتاب ولم يُعارض، ثم نسخ ولم يعارض، خرج أعجمياً ". وصدق الجاحظ والأخفش، وقد كان الخطر قديماً في الكتب المخطوطة، وهو خطر محصور، لقلة تداول الأيدي إياها، مهما كثرت وذاعت، فماذا كانا قائلَين لو رأيا ما رأينا من المطابع، وما تجترحه من جرائم تسميها كتباً!! ألوف من النسخ من كل كتاب، تُنْشر في الأسواق والمكاتب، تتناولها أيدي الناس، ليس فيها صحيح إلا قليلاً، يقرؤها العالم المتمكن، والمتعلم المستفيد، والعامي الجاهل، وفيها أغلاط واضحةٌ، وأغلاط مشكلةٌ، ونقص وتحريف: فيضطرب العالم المتثبت، إذا هو وقع على خطأ في موضع نظر وتأمل، ويظن بما علم الظنون، ويخشى أن يكون هو المخطئ، فيراجع ويراجع، حتى يستبين له وجه الصواب، فإذا به قد أضاع وقتاً نفيساً، وبذل جهداً هو إليه أحوج، ضحية لعبٍ من مصحح في مطبعة، أو عمدٍ من ناشرٍ أميٍ، يأبى إلا أن يوسد الأمر إلى غير أهله، ويأبى إلا أن يركب رأسه، فلا يكون مع رأيه رأيٌ: ويشتبه الأمر على المتعلم الناشئ، في الواضح والمشكل، وقد يثق بالكتاب بين يديه، فيحفظ الخطأ ويطمئن إليه، ثم يكون إقناعه بغيره عسيراً، وتصوَّرْ أنت حال العامي بعد ذلك!! وأي كتب تُبتلى هذا البلاء؟ كتبٌ هي ثروة ضخمة من مجد الإسلام، ومفخرةٌ للمسلمين، كتب الدين والعلم: التفسيرِ والحديثِ، والأدب والتاريخ، وما الى ذلك من علوم أُخر. وفي غمرة هذا العبث تضيء قلة من الكتب، طبعت في مطبعة بولاق قديماً، عندما كان فيها أساطين المصححين، أمثال الشيخ محمد قطة العدوي، والشيخ نصر الهوريني، وفي بعض المطابع الأهلية كمطبعة الحلبي والخانجي. وشيء نادر عُني به بعض المستشرقين في أوربة وغيرها من أقطار الأرض، يمتاز عن كل ما طبع في مصر بالمحافظة الدقيقة ـ غالباً ـ على ما في الأصول المخطوطة التي يطبع عنها، مهما اختلفت، ويذكرون ما فيها من خطأ وصواب، ينظرونه [لعلها يضعونه] تحت أنظار القارئين، فرب خطأ في نظر مصحح الكتاب هو الصواب الموافق لما قال المؤلف، وقد يتبينه شخص آخر، عن فهم ثاقب أو دليل ثابت. وتمتاز طبعاتهم أيضاً بوصف الأصول التي يطبعون عنها وصفاً جيداً، يُظهر القارئَ على مبلغ الثقةِ بها، أو الشك في صحتها ليكون على بصيرة من أمره. وهذه ميزة لن تجدها في شيء مما طبع بمصر قديماً، بلغ ما بلغ من الصحة والاتقان----. فكان عمل هؤلاء المستشرقين مرشداً للباحثين منا الْمُحْدَثين، وفي مقدمة من قلدهم وسار على نهجهم العلامة الحاج أحمد زكي باشا رحمه الله، ثم من سار سيرته واحتذى حذوه. وعن ذلك كانت طبعات المستشرقين نفائس تُقْتنى وأعلاقاً تُدَّخر، وتغالى الناس وتغالينا في اقتنائها، على علوّ ثمنها، وتعسر وجود كثير منها على راغبيه".
ثم عاب المستشرقين – وهم طلائع المبشرين – بما فيهم، وعاب أعمالهم بما فيها من نقص وجهل وخلل، وعاب الذين غلوا من قومنا في تمجيدهم وتقليدهم، إلى أن قال: "لم يكن هؤلاء الأجانب مبتكري قواعد التصحيح، وإنما سبقهم اليها علماء الإسلام المتقدمون، وكتبوا فيها فصولاً نفيسة نذكر بعضها هنا، على أن يذكر القارئ أنهم ابتكروا هذه القواعد لتصحيح الكتب المخطوطة، إذ لم تكن المطابع وجدت، ولو كانت لديهم لأتوا من ذلك بالعجب العجاب، ونحن وارثو مجدهم وعزهم، والينا انتهت علومهم، فلعلنا نحفز هممنا لإتمام ما بدؤا به.
نبني كما كانت أوائلنا تبني ... ونفعل مثل ما فعلوا "
ثم نقل الفصل الذي كتبه ابن الصلاح في مقدمته في باب ضبط المكتوب. وختمه بقوله: "هذا آخر ما قال أبو عمرو بن الصلاح في هذا الفصل، وقد طال جداً، ولكنه نفيس كله، وفيه فوائد جمة، ودقائق بديعة، وقد كتب العلماء بعده في ذلك الشيء الكثير، منهم المختصر، ومنهم المطيل، وذكروا وجوهاً وتفاصيل أخر، وكلها في تصحيح المخطوطات كما أسلفنا، ولسنا نحب أن نطيل فيه أكثر من هذا، الآن، خشية الملل والسآمة.
وهذه القواعد التي ذكر ابن الصلاح يصلح أكثرها في تصحيح الكتب المطبوعة، وهي كلها إرشاد للمصحح عند النقل من الكتب المخطوطة، حتى يعرف قيمة الأصول التي يطبع عنها، أهي مما يوثق به، أم مما يُحتاط في الأخذ عنه؟ ولو كانت الفرصُ مواتية لحررت قواعد التصحيح المطبعي، ووضعت له القوانين الدقيقة على أساس ما رسم لنا أئمتنا المتقدمون، وعلماؤنا الأعلام الثقات، لتكون دستوراً للمطابع كلها، ومرشداً للمصححين أجمع، وعسى أن أفعل، إن شاء الله بتوفيقه وهدايته وعونه).
انتهى كلام العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله؛ وإني لأود أن يسمع قراء الملتقى من كاتبيه الفضلاء ما يتعلق بهذا الأمر من اقتراحات وآراء؛ وإلى الله المشتكى؛ والله المستعان.
¥