وعلى هذا نستطيع أن نقرر بكل اطمئنان أنه لم يوجد قط صوفي طبق التعاليم الصوفية إلا وعنده انحرافات فكرية وعقدية ظهرت في عباداته وسلوكه، فإذا وجد على مدار التاريخ شخص أطلق عليه اسم (الصوفي) وخلت حياته الفكرية والعملية مما ذكرت فالتسمية خاطئة. ودعوى تطبيقه لتعاليم الصوفية غير صادقة.
الثانية: أن الزهد الذي حث عليه الإسلام وعرفه السلف الصالح ليس هو الزهد الصوفي، وليس هو النواة الأولى لنشأة التصوف كما يدعي بعض الباحثين ولا علاقة له به كما يزعمون. فالتصوف – منذ نشأ إلى اليوم – شيء، والزهد الإسلامي شيء آخر يغايرة مغايرة كاملة.
الثالثة: أن الحدود والتعريفات التي ضبط بها كبار الصوفية المتقدمون معاني (الزهد) و (التصوف) و (الولي) و (القطب) تمثل العمود الفقري لجميع معتقداتهم في قدرات الشخصيات المقدسة عند الصوفية.
وأرى أن الاهتمام بهذا الجانب يعد من أقرب السبل إلى معرفة عقائد المتقدمين منهم، وكشف مدى توغلهم في الانحرافات الفكرية والمنهجية، وفي ذلك ما يوصد الباب أمام أولئك الذين يريدون تبرئة المتقدمين من أهل التصوف من الوقوع في انحرافات متأخريهم. ولم أجد أحداً من الباحثين أعطى هذا الجانب أهمية تذكر، فآمل أن يقف قارئ هذا البحث على ما يؤكد له ذلك.
الرابعة: عمدت الصوفية إلى تقسيم الدين الإسلامي إلى شريعة، وحقيقة صوفية، وزعمت أن نصوص الشريعة لها ظاهر وباطن، وأن ظاهرها المتبادر إلى العقول والأذهان إنما هو للعوام والجمهور، وأما التفسير الباطني الذي هو لب الدين ومقصد الشارع الأساسي فلا يدركه إلا أولياء التصوف وأقطابه (العارفون الواصلون) ويعنون بهم أولئك الذين سقطوا في أوحال الحلول، أو في مستنقعات الاتحاد والوحدة.
وبهذا التقسيم تمكنوا من إقناع الجماهير بأن القيود والتكاليف الشرعية إنما هي للعوام، وأما أهل الحقيقة – وهم المقدسون عندهم – فلهم أن يخرجوا عن الشريعة ولا يسوغ لأحد أن ينكر عليهم.
وعلى هذا أستطيع أن أقول: إن الحركة الصوفية تستهدف إلى نقض عرى العقيدة الإسلامية الصحيحة عروة عروة، وتحاول أن تهدم جدار الشريعة المنيع. وتستقطب الصوفية في ذلك كل الأفكار والمبادئ والوسائل التي تساعدهم على تحقيق ذلك.
الخامسة: أن قارئ تراث الفكر الصوفي المدون في مختلف العصور إذا أمعن النظر في تصور الصوفية (للولي) و (القطب) و (الشيخ الصوفي) يخرج بنتيجة تؤكد أن هؤلاء لم يتركوا شيئا مما يستحقه المولى عز وجل من الصفات وأنواع العبادات إلا ووصفوا بها أولئك (المقدسين) وتوجهوا بتلك العبادات إليهم، وتؤكد أن فرقة الصوفية من أجهل الطوائف بحقوق الله على خلقه. وهذا البحث شاهد من شواهد هذه الحقيقة.
السادسة: عُلم بالاستقراء أنه ليس هناك صوفي أقر له كبار الصوفية بأنه من أهل الفتح والعرفان إلا ونجد في فكره – إن كان له فكر مدون – ما يدل دلالة واضحة على كونه من أهل الحلول أو الاتحاد، إن لم يكن موغلاً في الوحدة المطلقة، كما علم بتتبع فكرهم أن كبار الصوفية إذا أطلقوا كلمة (التوحيد) و (المعرفة) إنما يقصدون بها وحدة الوجود. وهذا هو ما يفسر حرصهم على كتمان توحيدهم غاية الكتمان، ولا يظهرونه إلا عند أخص أصحابهم.
السابعة: أن الصوفية بنشرهم عقيدة الحلول قدموا للصليبيين أهل التثليث خدمات جليلة ما كانوا يحلمون بها، ووضعوا في طريق إفحام أهل التثليث أسلاكاً شائكة: فإذا قيل لهم – مثلاً -: أنتم تتناقضون بقولكم إن الثلاثة واحد. أجابوا بأن في المسلمين من يقول بمثله وهم الحلوليون. وهذا الأمر هو السر وراء اتجاه المستشرقين الصليبيين إلى نبش التراث الصوفي الحلولي وتحقيقه وطباعته منذ وقت طويل.
الثامنة: تأكد لنا من خلال هذا البحث أن من أعد نفسه لاعتقاد كل ما ينشر في الفكر الصوفي فسوف يجد نفسه محاطاً بعدد لا يحصى من الأرباب والآلهة كل يدعو إلى نفسه بأساليب مختلفة ومناهج ملتوية، وفي ذلك من أسباب الحيرة والدهشة والشقاوة ما لا يزول إلا بالعودة الصادقة الجادة إلى الاعتصام بالكتاب السنة عقيدة وعملاً وسوكاً.
¥