تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أنت كيان عظيمٌ فتحدَّث

ـ[ذو المعالي]ــــــــ[15 - 02 - 10, 12:28 م]ـ

جرت بيني و بين صديق محبَّبٍ مقرَّبٍ ترسُّلات، أرسلت إليه جوابا على رسالة منه: أُقسم بربِّ القمرِ إنَّك لنقيٌّ. فأرسلَ إليَّ: أما النقاء؛ فو اللهِ لا أعلم قلباً تلطَّخ بالقاذورات كقلبي!. صدقا لا تواضعا. فأرسلت إليه: أيَجُبُّ الخيرُ الشرَّ، و الطُهْرُ القَذَرَ؟!. في قلبك من الخير ما لا يجوز لك ألا تفخر به، فاذكرْه تحدُّثاً. و لم تأت منه رسالة جواباً، و جاءني صوته النقي الشجي.

ما جرى بيني و بين صديقي هذا جعلني أكتب شيئاً مما يختلجُ الخاطرَ، و يسلك في العقلِ سُبلاً ذُللاً، لعلي واجداً قلباً ماجداً و عقلاً راشداً، فيعي ما أريد دون مزيد.

أيها الإنسان الصديق، حين ترسل ناظرك في الكون لا تجد شيئاً أكمل منك، و مخلوقاً أجمل منك، و كذلك لا تجد شيئاً يرفلُ بمزيد من النعم كما ترفل، بل إنَّك غدوت مظهراً من مظاهر الإبداع الإلهي، و هذا الإبداع الإلهي كامن في الكثير منك، في الدقيق و الجليل، الصغير و الكبير، الجلي و الخفي، ذلك الإبداع ما كان ليكون في الإنسان و يكون مستوراً، بل جعله الله حين أبداه ظاهراً أكثره للعيون الباصرة، و باقيه للبصائرة السابرة، فيُدرك من نفسه كثيراً، و يرى أكثر و أكثر. و حين تكون تلك المظاهر من الإبداع الإلهي منشورة ظاهرة، كان من لزام الحال أن يُظهرَ الإنسان من نفسه شيئاً من الإبداع الذي كَمُن فيه، حيثُ أمرُ {و أما بنعمةِ ربِّك فحدِّث} و إشارةُ " إن الله يُحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده "، فالإظهار من بديع الشُكر الذي لا يَنتبه إليه إلا القلائل من الناس، و الفطناءِ، فالله الخالق لم يجعل هذه ليكون مآلها إلى الكتمان، و لا حالها إلى السَّتْرِ، بل ليبدو منك أثرُ عظمته، و اعجبْ أن جعلك مظهراً لذلك، و ذاك مدعاة الفخرِ و الشرف.

إن الكتمَ بحجة التواضع، ليس سارياً في كل حالٍ على وجهٍ صحيح، فربما كان البيان من أكمل التواضع، ففي الفخرِ تواضعُ القلبِ، كما في الذم كِبَرُ القلب، و لستَ من أولئك صُنعاً، فاعترافك بما أنتَ عليه و بما هو لك من أنفسِ الأحوال في الالتفات إلى جانب التحدثِ المتضمِّنِ دقيقة الشكرِ عند من لَحَظَ سرَّ ذلك، كما أنه في الكتمِ استلفاتٌ للأنباه بالانتباه إلى ما وراءِ الكتمان، غيرَ ذلك؛ ما فيه من حجبِ أثرِ نعمة الربِّ الأعظم تعالى، و تلك مزلةٌ لا يسلم منها من تواضَع، فليس بضائرٍ أن تتفوَّه، أيها الإنسان، للقومِ بما أنت فيه، و بما حُبِيْتَ به من أثرِ الخالق العظيم، و من جرى على خاطره شيءٌ من ذلك، فليرْعَ خاطرَه بالمراقبةِ.

إن رأيت قلبكَ و ما حواه من جمال الكمال، و كمال الجمال، لرأيتَ أن ما فيه غالبٌ خيرُه و جميلُه على شرِّهِ و قبيحِهِ، و الغالبُ مذكورٌ لأنه منصورٌ، و المغلوبٌ مهجورٌ حيثُ كان مدحوراً، و في مثل هذه الحالِ تكون مِشية القلبِ خُيلاءَ، حيثُ انتصرَ فيه الكمال المرادُ على النقصِ، و لا يَختال كاملٌ، و لا يتكبَّرُ صافٍ، و إنما يتشبَّثُ بذَيْنِ، و يتعلَّق بهما، من لم تكتمل نفسه، و لم يَصِحَّ عقلُه، و حين ترى الكاملين، ترى فيهم حيناً من الدهرِ مدحاً لأنفسهم، و إشادةً بذواتهم، و لكنها حيث صحَّ منهم الفعلُ الموجبُ لذلك، و ثبتَ عنهم العمل المُصدِّقُ للقولِ، و ما آيةُ " لمَ تقولون ما لا تفعلون " إلا إشارة إلى الإشادة بالأفعال، فمن فعلَ و عملَ نال الإشادة، و الإشادة درب السيادة، و من لم يُعرف إلا بجعجعة اللسان، و شنشنةِ الهذَرِ فمدحه قدحه، و مناقبُه مثاقبُه، و رَفْعُه رَقْعُه، وحمدُه خَمده. فأنتَ من الأولِ، و مسراك حيثُ المعوَّل، إذ صحَّ بحضورك حبورُك، وببقائك نقاؤك، و بوجودك شُهودك، و بِغَيْضِكَ فيضُك، و بعلمك حلمُك، حيث رُمتَ القولَ بالعمل، و الكمالَ بتحقيق الأصل، و لم تكن بالدَّعَيِّ العَيِي. لذا فلا يَغلِبَنَّ الحسنَ اليقينَ ظنُّ القُبحِ، و لا الخيرَ دعوى الشرِّ، و لا الكمالَ النسبيَّ وجودُ النقصِ الأزلي، فالاعتبارُ ههنا بما أراد الخالقُ منك و فيك و لك و بك، من كمال و تمام، فـ {و لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} بيانٌ لأصلِ لزوم إبداء ذلك على الدوام، حيثُ كان الخلْقُ أولاً، و التخلُّقُ تالياً، و لزوم الإظهار لذلك من أسرار دقائق الشكر و الحمد و العرفان.

و لا يكون الناسُ عارفين بك إلا حين تكون مُعرِّفاً بنفسك، و حين تُعرِّفُ بها تكون قد عرَّفْتَ بأثرٍ من آثار الخالق الأعظم، و لا يلتفتُ أحدٌ إلى من لم يلتفت إلى نفسه، فـ " تكلم حتى نراك "، ليعلم الناسُ ما فيك مما يُناسبهم فيلجوا ميدانك ليأخذوا بيانك، و ما لا يناسبهم منك يذهبوا بأنفسهم عنك، ليأتي آخرون، و ليس ذا من حمْد الذاتِ في شيءٍ بقدْرِ ما هو بادرةٌ في إظهار ما فيك من الأثر الأكبر.

أيها الإنسان الصديق، لستُ أنا من يَرعى جنابك بمثل ذا، فأنت مثالٌ يُحتذى، و إنما بَوحُ صديقٍ وثيقٍ، و محبٍّ رفيق، أكشفُ لك عن مكنونِ الحالِ ما يبتهج به الحال، و عن مَصون الخَفِيِّ ما يُسعد الحُفيّ، و من مخزون القولِ ما بِهِ حَوْل، فغايةُ ما أتقنُه حرفٌ إلى حرفٍ أَخِهْ، إن رأيته معافىً فانتَخِهْ، و إن لم يكن شيئاً، فلا تتخذه فيئاً.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير