تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[بعض مقالات أنيس منصور عن طه حسين]

ـ[عامر مشيش]ــــــــ[14 - 12 - 2009, 07:51 م]ـ

نشرت هذه المقالات في جريدة الشرق الأوسط وكان المقال الأول يوم السبت 20 ذو القعدة 1430 هـ 7 نوفمبر 2009 العدد 11302

لأول مرة: طه حسين!

لو سألتني: قل لي ما تعرفه عن طه حسين؟ فلن يطول كلامي. ولكني أعرف أنه رجل عظيم. لكن لماذا؟ ليست عندي إجابة عن ذلك. كان طه حسين يلقي محاضراته في قسم اللغة العربية. وأنا في قسم الفلسفة .. وكانت عندي محاضرة هامة. ولكن فضلت طه حسين عليها. كانت القاعة قد امتلأت إلا قليلا. وفي هذا القليل أخذت مقعدي. وجاء طه حسين ومعه سكرتيره. وأجلسه على المقعد ..

وابتسم طه حسين. وتكلم عن الشعر في العصر العباسي. ووجدتني لا أسمع بوضوح فنقلت مكاني وجلست على الأرض بالقرب من الصف الأول من القاعة. وتكلم طه حسين بلا توقف. إنه يتراجع إلى الوراء ويرفع رأسه ويخفضه عند الكلام. ولكنه لا يتوقف. أسلوبه مختلف وكلامه، ونبرة صوته مختلفة. ويمضي طه حسين في كلامه ..

ولا يزال يصف الجو في العصر العباسي .. الجو السياسي، وبعد ذلك الشعراء وعلاقاتهم بالساسة في زمانه وما يشيع ذلك من قصائد مديح وهجاء .. ولا يتوقف طه حسين. فهو يتكلم بصفة متصلة. لا يغير من نبرته في الكلام. ولا صوت يعلو على صوته. وانتهت المحاضرة. وجاء السكرتير وخرج طه حسين. وبدأ الطلبة يتناقشون. طبعا كلهم معجبون بطه حسين بلا حدود. بعضهم يقول: إن خلاصة ما قال طه حسين ربما في جملة أو جملتين. ولو كان العقاد هو الذي يتكلم لكانت هناك ألف فكرة. ولكن للأسف العقاد لا يحاضر هنا. هو لا يريد أو أنهم لا يريدون لأن العقاد ليس جامعيا. فهو لم يحصل إلا على شهادة الابتدائية. ولكنه أكبر وأعظم من كثير من أساتذة الأدب العربي، ولكنهم لا يدعونه فهم دراويش طه حسين ..

ولكني عدت لطه حسين في مذاكرتي التي مزقتها. قلت ما معناه: الرجل صغير الحجم. نحيف قصير. ملامحه حادة رغم أن كلامه من حرير. ولكن نرى في ملامحه عظمة هادئة وإصرارا ساكنا وهو لا شك موهبة عظيمة. وكلامه في المحاضرات سهل. وهو يشرح كثيرا ما يقول، كأنه على يقين من غباوة بعض الطلبة. ولذلك يكرر ويعيد ويزيد. وكأنه مطرب يجد هو الآخر لذة فيما يقول وفيما يسمعه من إطراء عليه في كل مكان ..

للمرة الثانية: طه حسين!

تشجعت. وطلبت من سكرتير طه حسين: أرجو أن ألتقي بطه حسين. ولم أنتظر طويلا حتى تحدد موعد اللقاء في بيته في ساعة مبكرة .. كانت الثامنة. وفي الموعد تماما انفتحت لي كل الأبواب. وعلى اليمين مكتب طه حسين. وطه حسين كان جالسا بالقرب من الباب. سمعني فوقف لتحيتي قائلا: أهلا بك يا سيدي!

هذا الأدب أذاب الكلام الذي كنت قد أعددته وقررت أن أغير الكلام وأحوله إلى حديث معه. وأيامها كنت المحرر الأدبي لصحيفة «الأخبار» .. وابتدعت أسئلة وقضايا. وكما كان طه حسين يتحدث في الجامعة كان يتحدث لي في مودة. شيء غريب. إن هذا الذي رأيته عند طه حسين لم أره عند العقاد. فالعقاد جاف خشن صارم أحيانا.

طبيعي أن يحب الطلبة طه حسين. والأساتذة وكل الناس. ماذا يطلبون من عظيم إلا أن يكون أكثر تواضعا وأشد ألفة وأعمق مودة. ماذا نقول لرجل يقول لطالب يا سيدي .. قالها عشرين ثلاثين مرة في هذا الحديث كلما أراد أن ينتقل من موضوع إلى آخر.

اختلقت سؤالا: ما رأيك يا أستاذنا العظيم في الترجمة .. نحن لا نترجم عن الغرب كتبا كثيرة. إننا نحتاج إلى من ينقل لنا حضارة الغرب، فالإقبال على اللغات عندنا قليل. فالإنجليز احتلوا مصر سبعين عاما وليس بيننا من يتكلم الإنجليزية كأهلها .. أما الاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان وتونس والجزائر والمغرب ترك فيهم أناسا كأنهم فرنسيون في التحدث والتفكير وأكثر ارتباطا بالأم فرنسا؟!

ابتسم طه حسين واعتدل في جلسته ورفع رأسه وكأنما يتلقى الوحي وقال: يا سيدي أنت أثرت قضية هامة جدا. لأننا لسنا نحتاج إلى ترجمة الكتب وإنما إلى ترجمة العلوم. فالشعوب ترقى بالعلم وتنتعش بالأدب .. فالعلم لا يفسد الذوق. والأدب لا يصيب العلم بالخرافة. والمثل الأعلى أن نتلقى العلم وأن ننقله للناس في سهولة ويسر. وقال يا سيدي عشرين مرة ..

وكان في نيتي أن أعرض عليه شكوانا من خشونة الأستاذ العقاد ورفضه لأن نناقشه أو يكون لنا رأي مخالف!

لثالث مرة: طه حسين!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير