[من مذكرات أبي مروان بن حيان]
ـ[عبد الرحمن الظاهري]ــــــــ[05 - 02 - 2010, 02:11 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
قَال أبُو مروان في كِتابٍ لا يعلَمُ به كل أَهل المشرق ما خَلا العلامة ابن عقيل الظاهري والإمام مُصطفى صَادق الرافعي من المَشَارقة، ومنَ المغاربة العلَّامة محمدُ الأمين بوخُبزة وتلميذُهُ الورَّاق الأديب نُور الدين الحُميدي والعلامةُ الحَسَنُ العلمي:
... قد ذكرتُ طرفًا مما كَان بينَ أَبي مُحمد بن حزمٍ وسَائر أهل زمانهِ، من فاحشِ الهجاء وغَليظ الكلامِ، فطارَ به بعض من انعدَمَت مَادَّة الإنصاف في دمَاغه، وفرِح به من قلَّت في فعله وَقوله روحُ الحكمة و عظُم في دَاخلهِ سيئ المُعتقد وفاسِد الطريقة ... فسَائنِي مَا آل إليه الحال، وصار إليه الزمان، فاستعذتُ بالله من أن أُصاب في الدين والدنيا بشائبة من تلك الشوائب، فأَكونَ لهُم ظهيرا، ولباطِلهم نصيرًا، وقد انقطع رَجائي مِن الدُّنيا وأهلها فلم أعُد أبصر قُدامي إلا تخومَ دولة الحق، وويلي إنْ لَم تهدِنِي تَجَاربُ ما مَضى من أيَّامي فأستعين بِهَا على ما بقيَ منها بما يضمنُ لي الفوزَ في الأخرَى ...
ولا أحدَ يدخل الجنة بعمله!.
وما أكثر ما ردَّد أبو مُحمد-فيما نُقل إلينا- هذَا الكلامَ وأشباهه، وله في ذَلك كلمات رائقة، ومَعانيَ ساميةٍ أودَعها سفرًا من أسفاره العَجيبةِ وكتَاباته النَّفيسة لا أذكر اسمهَا لآفات الكِبرِ وأسقام السِّنين، لكنَّها تُعالج أمرَ النُّفوس: فتُداوي جِراحَها، وتُرشِّد أَمر أصحابها إلى حيثُ يكُون الخلاص والسرور: فأبلى بلاءً أخْملَ به ذِكر الأوَائل وتَابعِيهم من الأواخر، من الموالي والمستعربين وأضرابهم.
ولله دَرُّه إذ يقولُ فيما أحفَظه عنهُ من كتابه: "واعلم يقيناً: أنه لا يسلَم إنسي من نَقصٍ حاشا الأنبيَاء صلوات الله عليهم فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط وصار من السخف والضعة والرذالة والخسة وضعف التمييز والعقل وقلة الفهم بحيث لا يتخلف عنه مختلف من الأرذال وبحيث ليس تحته منزلة من الدناءة فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها وعن عيوب غيره التي لا تضره في الدنيا ولا في الآخرة."
وما فَارقَ عوائِده هذه يومًا! فلقَد هَمَّه أمرُ المتَشدِّقينَ بالكَلامِ، والمتَقعِّرين فِي المَعاني أؤلئِكَ الذينَ ضَربَ اللَّهُ على قلوبهم بأقفالٍ من الجَمرِ الحامي واللَّهَب الحَارقِ، وأَفرغَ ذواتَهم في أجسادٍ آدمية وعُقول بهيمية، فمَا يُترجمون على ألسِنتهِم من المَعَاني إلا تِلكَ التِي يَتَفاهَم بها حَميرُ خاملي الزنج، وأعلاج الصِّقلابِ .. فاستنجد بقريحته فيما يَقطعُ مادَّة عِلمهم ويُبطل آلةَ حُمقهم: فما خَذلته تالله!.
ويالله والمسلمين من أقوام صمَدوا إلى ما صنفتُ ففتَّشوا فيه عما يَنصرونَ بِه بَاطِلهم من الحَطِّ على أَبِي محمَّدٍ فما وقعُوا –عافاهم الله مما يجدُون- إلا على قولي:" ... غَير أنَّه لم يخل فيهَا من الغَلطِ والسَّقط،
لجُرأته في التَّسوُّر على الفنون لا سيما المنطق، فإنهم زعمُوا أنه زلَّ هنالك، وضلَّ في سلوك تلك المسالك، وخالف أرسطوطاليس واضعه مخالفة من لم يفهم غرضه ولا ارتاض كتبه".
فما قصدتُ إلا التنبيه على ما ذُكر عنه، وما جَزمتُ حتى يحتَجُّوا بكلامِي على غيرِ وجهِه الذي أردتُ: فأسَاؤوا إليَّ وإِلى أَنفُسِهم.
أما عني: فأعوذُ بالله من أن أَكُون من مُنكري شامخَ مقامِ أهلِ الفَضْل في العلم، وجَاحدي سامِقَ مَكانِ أهلِ الذَّكاء في البحثِ، لَكنَّهُم ألبَسُوني لِبَاسَ اللُّؤم مِمَّا هم أحَقُّ به وأَحْرى:
ومَا يضيرُ أبَا مُحمِّدٍ أن خَالفَ المُعَلِّم الأوَّل بقريحةٍ له في المنطقِ أقوى من قريحةِ صاحبه؟ وقد قالوا إنه على رَأسِ كُل ألفِ سَنة يأتِي رجلٌ يخرِق ما يعتادُه النَّاس في بعضِهم من الأوْضَاعِ العلميَّة، فإن صدقوا فأين العجبُ؟!.
وما يضيره أَن يفوقَ وَاضِع المَنطقِ بحِكمةٍ قد استمدَّها من نُورِ الوَحي الذي أضَاءَ جنبات نفسه ففاضَت بالإشرَاقَات النورانية مما لا قِبَل لأرسطُو به وإن استطاع أن يُنطق حمارًا شبيها بهؤلاء الذين عابوا أبا مُحمَّد: ليسَ لهم من العلم إلا إفراغ أجوافهم من الهواء في شَكل أصواتٍ آدمية!
وأمَّا عنهُم: فإنني مُشفِقٌ عليهم –علِم الله- فإنهُم قد رُموا بحَجَر الأرضِ! وما اعتَادوا أن يَروا في الرِّجال من كانَ ذا رأس حَية: يتفَجَّر علما وفهماً يكاد صاحبُه يضيقُ به!.
فلمَّا لَم يكُن أحدٌ أخَفَّ منهُم في العقلِ، إذا ذُكروا-في ضعف التمييز- ترحَّم الجلساءُ على ذكاء هبَنَّقة: لم يجدوا أخفَّ على أنفسهم وأروَاحهم من رميه بالجهل، واختصَاص أنفُسِهم بالعِلْم! فكَانوا –والله- حُماقا متفكِّكين في حُمقِهِم، وإني لأشكُّ أن يكون بهم مَسٌّ من شياطين الهند! وأحسبُ أنَّ هذا الشيطانَ المسكينَ قد ظَنَّ بعدوله إليهم أنه لن يخلو مِنهُم بنَادر العِلمِ وشَامخِ الحِكمَةِ مما يُمكِّنه من رئَاسةِ حُكمَاء شَياطِينِ قَومهِ، فما زادَ على أَن أَلصَقَهُم فُسُولةَ أهلِ الهِندِ كُلِّها لم ينقص من ذلِك شيئا! قاتله الله على صنيعه في قومنا!
وما أَحسبُ أبا محمد حين يُنشِدُ إلا مخَاطِبًا هَؤُلاءِ الحَاطين عليه:
من ظَلَّ يبغي فُروع علم ... بَدءاً ولم يَدر منهُ أصلاً
فكُلما ازدَاد فيه سعياً ... زادَ لعَمري بذَاك جَهلاً
فيالبدائع هذا الحبر على بن حزم وغرره! ما أوضَحَها على كَثرة الدافنين لها، والطَّامسين لمَحاسِنها! وعلى ذَلكَ فَلَيس بِبِدع فيمَا أُضيع منهُ، فأزهدُ النَّاس في عَالم أهله! وقبلَه أَردَى العُلماءَ تَبريزُهم على مَن يقصُر عنهم، والحَسَدُ داءٌ لا دواء لهُ.
ولقد سَرّني أن يَشهد بصدق قَولي بعض النبهاء من أهلِ العلم والأدب نُقل إليَّ أن اسمه علي بن بسام إذ يقولُ: ولعمري ما عقُّه، ولا بَخسَه حقَّه.
فجَزاه اللهُ أحسنَ ما يجزي بِه الصَّادقينَ وعوَّضه عن محَنه خيراً.