تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ياله من بارع هذا الشاعر، حين يلفّ المعنى ويربطه مثل خيوطٍ أرادنا أن (ننشلُها) ونفكّ ربطها معنوياً وانظر كيف يرسم خيطاً دقيقاً افتراضياً بين القلب والكف، والكفّ هُنا نائبة عن الأنامل والكلمات ريثما تحضر ..

والكف هي المسؤولة عن الرسم (رسم الكلمات) ولا دخل لها في انتقائها فهناك عضو آخر أوكل ذلك.

هذا الربط الدقيق مثّلته لفظة (مستقي) بتمثيل رائع وكأنها (تلك الكلمة – العلم) نبتة تستقي ماءها من مجرى دقيق في أعلى الرابية فيغدو الماء دفاقاً سهلاً في جريانه، وإذا التفتنا إلى ذلك (النبع) منبع الفكر والكلمات والعلم وجدنا شاعرنا يفاجئُنا بصيغة التصغير بل ويتعمد إضافتها إلى الزجاج فما السرّ في ذلك؟!

ونظنُّ ..

أنه أراد ذلك من جانب صدق المرثي في علمه وصراحته، وأنه لا يحيد عن الحق، فصوّر– لفظاً ومعنى – علمه بالصدق لاستقائه ذلك من قلبه الصادق انعكاساً لداخله، ثم يضيف لفظة (الزجاج) الشفاف بمحاذاته إمعاناً في الصدق وتأكيداً على قوة الكلمات وعمق العلم الذي يحمله هذا الفقيه.

أما في الشطر الثاني فيبتكر صنفاً رائعاً من المعاني وجمالاً آخر في الألفاظ وصورة دقيقة – بدقّة رقميات العصر الحالي – وهي صورة مقصودة لها أن تكون خلف عيوم خفيفة كستائر بيضاء لا يتبينها إلا دقيق الفكر، أرادها أن تكون كناية كما اعتاد في هذه القصيدة – وبالأخص – في وصف الفقيه.

فهاهو يرسم طُغيان المداد ووصفه بالماء في كثرته الغالبة، وهي كناية عن سِعة علمه، فما أبلغك يا معرّي!

وزاد في تزيينه فزيّن إطار هذه الصورة بألوان أكثر زهواً وأحلى إشراقاً وأقوى في بروز المعنى فسارع في اختيار لفظة (غروب اليراع) في المداد (الماء).

وهو قصدٌ ضبابي لمعنى سعة العلم كذلك فاختفاء القلم في المداد دالٌ على كثرة المداد كذلك وهو ما مرّ معنا ..

أما الجميل هنا فوجود كلمة (غروب) التي أضفتْ نسقاً لونياً رائعاً ..

ـ[السراج]ــــــــ[09 - 02 - 2010, 01:12 م]ـ

مع البيت الأخير – فيما اخترناه من هذه القصيدة -

ذا بنانٍ لا تلمس الذهب الأحم=ر زهداً في العسجد المستفاد

يواصل المعري سوق الصفات كما عهد في قصائد الرثاء – على الرغم من اكتساء هذه القصيدة بثوب الحكمة والفلسفة الطاغية والتي مرّت قبل بدئه في ذكر تلك المحاسن و الصفات، في دلالة صارخة – من التقديم – على نظرته للحياة يغطيها الكثير من الطبقات العازلة الشفافة حينا والقاتمة أحيانا أخرى ..

لكنه يواصل هذا الحزن العميق بتذكر ما عرفه عن صديقه الفقيه الحلبي.

وإذا أردنا اختصار هذا الزخم اللفظي في كلمة واحدة كانت تلك الكلمة " الزهد "!

فيبتدئ البيت بوصله بالبيت السابق في تراكم الصفات وتلهّف الميزات بذكرها تعزيةً لهذا الفقيد الفقيه.

وعلى الرغم من ورود تلك الكلمة المفردة التي (اختزلت) البيت بأكمله في تجردٍ تام إلا ما اعتراها من (استثنائية) التنوين فكانت تصويراً دقيقاً لهذا الفقيه الذي ترك أقلّ شيء في الدنيا وهجره، وانطلق يطلبُ الآخرة، ومن ذلك أنه لم يلبس (الذهب الأحمر) في إشارة إلى أحد أنواع الحجر الكريم والذي اكتسب صفته اللونية في اللفظ من لونه الطبيعي (وتشترك بعض الأنواع في اللون مثل: الزمرد، والياقوت .. وأغلب الظن أنه يقصد الأخير).

لكن الملفت للمتذوق أنه اختار الجزء المقصود في ارتداء مثل هذه الأحجار الكريمة أو حتى مع باقي المعادن النفيسة، واختار اللفظ الشعري منها (بنان) بدلا من أصابع كي تتناغم لفظياً من البيت.

ثم أنه أراد هنا أن يدرج صفة الزهد للفقيد فكانت كلمة (الذهب) - والتي يتبادر مع سماعها أو لمحها رسوماً وحروفاً ثمنها – علامة مدفونة ووقع خطوات لما تركه الفقيه زهداً رغم أنه ليس ذهباً!

وها هو في الشطر الثاني يعيد بأسلوب يلفّ بالمعنى ثم يُعيده عند نقطة البداية في أسلوب جميل كي يحشد للفكرة زخم الألفاظ والمعاني، فيذكر اللفظة الأخرى للذهب.

إذن هذه الأصابع لا تلمس تلك الأحجار الكريمة (الذهب الأحمر) زهداً في الذهب الأصلي.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير