يَجْعَلَهُمْ يَشْهَدُوهُ مُشَاهَدَةً كَامِلَهً لِيَفْهَمُوا بِهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَى الْغَائِبِ، أَشْهَدَهُمْ إِيَّاهُ، وَأَشَارَ لَهُمْ إِلَيْهِ، وَفَعَلَ قَوْلًا يَكُونُ حِكَايَةً لَهُ وَشَبَهًا بِهِ، يَعْلَمُ الْمُسْتَمِعُونَ أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِالْحَقَائِقِ الْمَشْهُودَةِ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي يَعْرِفُونَ بِهَا الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ". اهـ
فلهذا الكلي المشترك نفع عظيم في سائر العلوم إذ به يحصل التصور الذهني للمعاني التي يحصل بها الإفهام سواء أمكن إدراكها بالحس كسائر المدركات في عالم الشهادة، أو لم يمكن كسائر المغيبات التي تدرك العقول معانيها وإن تعذر عليها تصور حقائقها.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "درء التعارض":
"فما هو مطلق كلي في أذهان الناس لا يوجد إلا معينا مشخصا متميزا في الأعيان وإنما سمي كليا لكونه في الذهن كليا وأما في الخارج فلا يكون في الخارج ما هو كلي أصلا.
وهذا الأصل ينفع في عامة العلوم فلهذا يتعدد ذكره في كلامنا بحسب الحاجة إليه فيحتاج أن يفهم في كل موضع يحتاج إليه فيه". اهـ
وذلك يظهر بوضوح في العلوم الطبيعية فلا بد من أجناس كلية جامعة تندرج تحتها المعاني الجزئية.
ففي علم الأحياء على سبيل المثال: يعتبر لفظ: "خلية" مشتركا معنويا إذ لا يوجد خارج الذهن إلا مقيدا بنوع معين من الخلايا فيقال ابتداء الخلايا تنقسم إلى جنسين كليين: جنس الخلايا الجسدية، وجنس الخلايا التناسلية التي تنتج من الانقسام الاختزالي فتنتج خلايا تحمل نصف عدد الصبغيات، ثم جنس الخلايا الجسدية يندرج تحته أنواع من الخلايا، فلا يوجد، أيضا، لفظ: "خلية جسدية" بهذا الإطلاق، خارج الذهن، وإن ورد عليه قيد "جسدية"، فيرد قيد ثان يزيد المعنى تخصيصا ليصح وجوده في الخارج فيقال: خلية جسدية عصبية، أو: خلية جسدية عضلية، أو: خلية جسدية طلائية ...... إلخ، وتستمر المتوالية العقلية آنفة الذكر حتى تنتهي إلى خلية بعينها لها وجود جزئي يختص بها فلا تقبل الشركة مع خلية أخرى فيه فلكل وجوده المستقل كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وقل مثل ذلك في الأنسجة فلفظ: "نسيج" على سبيل المثال: كلي مطلق يرد عليه القيد ليزيده تخصيصا فيقال: هذا نسيج ضام، وهذا نسيج دهني، وهذا نسيج عضلي ..... إلخ لتستمر المتوالية العقلية إلى نسيج بعينه خارج الذهن.
ويمكن إجراء هذا التسلسل العقلي في علم الكيمياء على سبيل المثال فلفظ: "ذرة" لفظ كلي مشترك يدل على تركيب معين من عدد من الجسيمات المتعادلة، والجسيمات الموجبة وما يقابلها من الجسيمات السالبة التي تدور حول النواة في أفلاك محددة، ولكن هذا الكلي لا يوجد في الخارج إلا مقيدا بنوع بعينه من الذرات فهذه ذرة صوديوم تتميز بمعنى أخص من مطلق الذرة، وهي أنها من المجموعة الأولى، وأنها ذرة صوديوم تحديدا فهذا قيد ثان، وهكذا بالنسبة لكل ذرة.
وفي العلوم التصنيفية كالتصنيف الحيواني أو التصنيف الزهري، تنقسم المملكة وهي جنس كلي أعلى إلى مجموعة من الشعب فالطوائف ........ إلخ في تقسيم دقيق يقع التمايز فيه بتوالي القيود على الأجناس العليا حتى نصل في النهاية إلى النوع: إنسان، قرد ......... إلخ، وهذا النوع بدوره لا يوجد كليا في الخارج بل لا بد أن يقيد بشخص بعينه فيقال هذا: زيد فهو من أفراد نوع الإنسان، وعمل المناطقة في الحدود الجامعة المانعة على طريقة الجنس فالفصل الذي يرد عليه ليخرج ما سوى المحدود يشبه إلى حد كبير عمل علماء الحياة في تصنيف الممالك الحياتية حيوانية كانت أو نباتية ......... إلخ.
ولا شك أن تلك العمليات العقلية المتوالية، تدل، كما تقدم في مواضع سابقة، على عظم دقة وإتقان صنع الله، عز وجل، للعقل البشري، فيقوم بهذه العمليات العقلية الدقيقة دون تكلف أو عناء ليدرك الحقائق الكلية والحقائق الخارجية في عالم الشهادة، ثم هو مؤيد بالوحي الذي يزكي قياسه الصحيح في مسائل السمعيات الغيبية، فيأتي الوحي ليزيده زكاء، بما يرشده إليه من الكليات الغيبية التي لا تتلقى إلا من قبل السمع، فيوقفه على المعاني ليتدبر دون الحقائق التي لا تدرك في دار الابتلاء، فلو كشفت لبطل الابتلاء بالإيمان بالغيب إذ كلٌ يصدق بمعاينة الحقيقة فلم يعد للابتلاء معنى.
وذلك مما سبق به المحققون من علماء هذه الملة من أتى بعدهم من علماء اللغة فأصلوا له تأصيلا يشهد لهم بالريادة في هذا العلم.
والله أعلى وأعلم.