تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[من مناهج التصنيف في علوم اللسان العربي]

ـ[مهاجر]ــــــــ[01 - 01 - 2010, 08:45 ص]ـ

قيل عن سيبويه، رحمه الله، بأنه: نحوي لغوي غلبت عليه صناعة النحو، وإن لم يكن على رسم المتأخرين الذين عنوا بتجريد القواعد النحوية على طريقة أهل المنطق في حد الماهيات بحدود جامعة مانعة أفقدت اللغة كثيرا من حيويتها فقلت ملكة النحو العملي الذي يظهر أثره في الكلام في مقابل زيادة قواعد النحو النظري الذي يحسن أصحابه تقعيده وشرحه دون استعماله، فسيبويه أكثر من التطبيق في كتابه فجاء كتابه حافلا بالشواهد من كلام العرب، إذ غلب عليه الاستقراء لكلام العرب نحوا، كما غلب على علماء اللغة استقراء كلام العرب معنى، فضمن كتابه عددا كبيرا من الشواهد تخطى الألف بيت، وهو كم يدل على سعة ثروة صاحبه من كلام العرب زمنَ الاحتجاج، ولذلك كان المباشر لكتابه أعظم ملكة في النطق والكتابة من المباشر لكتب المتأخرين التي غلب عليها التأصيل النظري بمعزل عن التطبيق العملي، وهي روج جامدة سرت إلى كثير من العلوم الإسلامية لا سيما بعد ترجمة كتب اليونان التي يغلب عليها البحث النظري في الكليات المجردة والمثل العليا المطلقة، فعنايتها بالجانب العملي ضئيلة. وإلى طرف من ذلك أشار ابن خلدون، رحمه الله، بقوله:

"إن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة. فهو علم بكيفية، لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة، إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً، ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة، غير محكم لملكتها، في التعبير عن بعض أنواعها: الخياطة هي أن تدخل الخيط، في خرت الإبرة ........... وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل. وكذلك تجد كثيراً من جهابذة النحاة، والمهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو في مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده، أخطأ فيها الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود فيه على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية.

فمن هنا يعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة. وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة، وهو قليل واتفاقي، وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه والمحصل له، قد حصل على خط من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته. وتنبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعليمها، فكان أبلغ في الإفادة.

ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه من يغفل عن التفطن لهذا، فيحصل على علم اللسان صناعة ولا يحصل عليه ملكة. وأما المخالطون لكتب المتأخرين العارية من ذلك، إلا من القوانين النحوية، مجردة عن أشعار العرب وكلامهم، فقلما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو يتنبهون لشأنها، فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب، وهم أبعد الناس عنه. وأهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها ممن سواهم، لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم، والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم، فيسبق إلى المبتدىء كثير من الملكة أثناء التعليم، فتنطبع النفس بها وتستعد إلى تحصيلها وقبولها". اهـ

بتصرف من "المقدمة"، ص717، 718.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير