تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بينهما: علاقة حاكم شمالي لمحكوم جنوبي برسم القهر، وما فعله الرومان بالأقباط والبربر خير شاهد على ذلك، مع كون الأقباط يشتركون معهم في الدين وإن اختلفوا في المذهب، فقد سعى الرومان إلى توحيد دين ومذهب الدولة قهرا من لدن اعتنق قسطنطين النصرانية وأحدث فيها مذهب الملكانيين الكاثوليك وجعله المذهب الرسمي واجب الاتباع استنادا إلى قرارات مجمع نيقية التعسفية.

وظهرت قوميات أخرى سعت في إزالة الخلافة بوصفها قيدا دينيا قاهرا لحرياتها الدينية، مع أن الدولة العثمانية قد اشتهر عنها التسامح إلى حد التساهل مع الأقليات الدينية فنشط الأرمن، ونشط نصارى مصر والشام متدثرين برداء القومية العربية، والقومية الأممية الأضيق، فالشام للشاميين ومصر للمصريين، ولكل مصر قوميته وخصائصه الإنسانية التي تميزه عن بقية الأمصار، وليس الدين على رأسها بطبيعة الحال فما نشأت تلك القوميات إلا على أنقاضه.

فكان انحلال الرابطة الدينية لهذه الإمبراطورية سببا في تفككها، ونمو العصبيات البديلة، فظهرت القومية العربية وبلغت أوجها في منتصف القرن الماضي حتى انهار الحلم العربي!، في يونيو 67، وظهر أثر ضعف التدين على أداء الأمة العسكري والسياسي، وأصيبت كثير من النفوس بالإحباط، وعلت نبرة المصالح الخاصة الأضيق، فكان الشعار إسلاميا زمن الخلافة، ثم صار قوميا، ثم صار أمميا، فالأمة المصرية منهمكة في تحرير سيناء، والأمة السورية منهمكة في تحرير الجولان، والأمة الفلسطينية منهمكة في استعادة وطنها بأكمله! ....... إلخ، ولكل أمة حلم خاص وطموح قاصر على محيطها الضيق، فلم تعد الشعارات المثالية تصلح في أزمنة المصالح المادية، وهذا حال الأمة العربية التي تدعي الوحدة الإنسانية فرعا عن الوحدة اللسانية، مع كون دولها على حد المشاقة والمحادة لأتفه الأسباب، وسوء ظن الجار بجاره قد بلغ حد التآمر عليه تصريحا أو تلميحا كما جرى للعراق وغزة تحديدا، فضلا عن سباق التسلح الثنائي بين دول جوار يجمعها ذات اللسان!.

والتنابز بالألقاب على أَوْجِهِ حتى داخل المجتمع الواحد فالشخصية الكاريكاتيرية لأهل صعيد مصر قد نال بها الساخرون مآربهم من التندر، ولكل محافظة حظها من الألقاب الردية، وللشخصية البدوية حظها من السخرية في جزيرة العرب، وللشخصية البربرية حظها من ذلك، بل ربما نال ذلك أحياءَ مدن بعينها، أو حتى أسرا بعينها فهو هرم متدرج، ومع ذلك يدعي أفراده الوحدة فرعا عن اللسان الجامع مع أنه هو ذات اللسان الساخر اللامز!، وأمة العرب، كما ذكر المحققون، كابن خلدون رحمه الله، أمة لا تنتظم أحوالها إلا في سلك الديانة فإن انقطع رأيت منها العجب من أفعال تجعلها مثار سخريةٍ ومادة تندر لبقية الأمم.

والتجربة اليوغوسلافية هي الأخرى شاهد عدل على انهيار القومية السياسية بمعاول القومية الدينية، فإن تيتو قد بذل جهودا كبيرة في دمج شعوب يوغوسلافيا السلافية والبوشناقية والأرناؤوطية ...... إلخ، فهجر جيوبا من كل قومية إلى أرض القومية المجاورة مما أحدث خللا في التراكيب السكانية كان عاملا رئيسا في اشتعال الحرب الأخيرة، فصرب البوسنة ليسوا من أهلها بل قد رحلوا إليها بقرار سياسي، وكروات البوسنة وصرب كرواتيا على ذات الحد، ولم تستطع تلك القوميات التعايش إلا بالقوة العسكرية القاهرة، فلما مات تيتو تراخت تلك القوة، وظهرت الأطماع القومية للصرب في البلقان عموما، والبوسنة خصوصا، وكان صرب البوسنة، والمفترض أنهم مواطنون بوسنويون شرفاء!، كانوا رأس حربة متقدم لصربيا الأم بل قد فاقت جرائمهم بقيادة السفاح: "كاراديتش" جرائم الدولة الأم، فلم تثمر الجيرة إلا حقدا إضافيا ظهرت آثاره مع أول شرارة حرب، وقل مثل ذلك في الكروات الذين دخلوا في تحالفات هشة مع المسلمين لم تدم طويلا فانقلب الولاء إلى كرواتيا الأم، وكان صرب كرواتيا أيضا لا سيما في "كرايينا" رأس حربة متقدم لصربيا في صراعها مع كرواتيا، وانقسمت الدولة البوسنوية إلى جيوب طائفية، واللافت أن الأمة البوسنوية الهجين لم تنقض ذلك الائتلاف الهش بين طوائفها إلا برسم الدين والمذهب فمسلمون ونصارى، والنصارى: صرب أرثوذكس وكروات كاثوليك، مع أن نقض الرابطة الدينية كان الهدف الرئيس

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير