تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

على العكس مما تقدم قد يقع التفاهم المشترك بين أبناء لغتين متباينتين، ولو من جهة التقسيم الاصطلاحي، فكثير من لغات الدول المتجاورة، لا سيما الأوروبية تكاد تكون متطابفة، أو قريبة الشبه جدا من بعضها البعض، فالسويدي والنرويجي، مع اختلاف لغتيهما، يتفاهمان بكفاءة أكبر من تفاهم المصري مع المغربي على سبيل المثال مع اتحاد لغتهما القياسية: العربية الفصحى، وقل مثل ذلك في الإسباني والبرتغالي، فإن اللغتين تتشابهان إلى حد كبير، ويظهر ذلك بوضوح في أسماء الأفراد، بل البرتغال تاريخيا هي إمارة أو ولاية من مملكة نصرانية من ممالك نصارى الشمال هي: مملكة جليقية، فلم تظهر إلى الوجود، كما ذكر الأستاذ محمد عبد الله عنان رحمه الله في "تاريخ دولة الإسلام في الأندلس" إلا منتصفَ القرن الثاني عشر الميلادي، ومع الخلاف الشديد بين ممالك النصارى في الشمال والذي وصل إلى صيرورتها مع صغر مساحة إسبانيا النصرانية آنذاك خمس ممالك: قشتالة وليون وأراجون ونافار والبرتغال، وتقاسم بعضها بعضا في انتهازية سياسية ظاهرة كما وقع من أراجون وقشتالة اللتين اقتسمتا نافار، إلا أن الروح الصليبية الجامعة قد وحدت تلك الجموع ضد المسلمين في معركة العقاب سنة 609 هـ بقيادة محمد الناصر لدين الله، غفر الله له على ما كان منه من تفصير، فتوحدت تلك الجموع بما فيها مملكة نافار التي استعادت وجودها مرة أخرى، ومع ما تكنه لمملكتي قشالة وأراجون من حقد وعداء تاريخي إلا أن ذلك لم يمنعها من المشاركة في هذه المعركة لرد هزيمة "الأرك"، سنة 591 هـ، التي هزمت فيها قشتالة بمفردها أمام يعقوب المنصور، رحمه الله، فذلك مما يؤكد مرة أخرى أن العامل الديني يقدم على كل العوامل اللسانية والسياسية بل ويزيل العداوات بين أهل الملة الواحدة فعند الشدائد تذهب الأحقاد، ولم يكتسب المنصور، رحمه الله، تلك المكانة السامية في تاريخ المسلمين مشرقهم ومغربهم إلا لكونه قد عبر إلى الأندلس برسم الانتصار من ألفونسو الثامن الذي سخر من الإسلام ونبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلم يكتسبها لكونه عربيا أو مغربيا أو موحديا، فالعامل الديني هو الذي بوأه تلك المكانة، وهو الذي بوأ ألفونسو الثامن نفس المكانة في قلوب النصارى بعد انتصاره على محمد الناصر، وحديثا نجد من الخلافات العميقة بين أمريكا وفرنسا ذات النزعة الكاثوليكية الحساسة لكل من يتعرض لقيمها وثقافتها لا سيما الثقافة الواردة من الشاطئ الآخر من الأطلنطي، نجد من ذلك ما قد ظهر وعلم، ولذلك لم يعد ساكوزي يحظى بنفس التأييد الشعبي الذي حمله إلى سدة الحكم لكونه مقتفيا آثار أمريكا على نحو بأنف منه الفرنسي ذو الشخصية القومية المستقلة، ومع ذلك لا يجد ذلك الفرنسي غضاضة، بل يرجب بالمشاركة في احتلال بلاد الأفغان المسلمة تحت قيادة أمريكا عدوده الثقافي اللدود، فمرد الأمر، كما تقدم، إلى العامل الديني الذي يظهر بوضوح في أزمنة الحروب والصراعات المسلحة.

والشاهد أن هذا التفاهم بين البرتغالي والإسباني، فلغتهما لاتينية الطابع، من العلامات الدالة على وحدة اللسان أو قربه الشديد، فقد يتفاهم الاثنان، أيضا، بكفاءة أكبر من تفاهم المصري مع المغربي.

رابعا: الشعور بالانتماء إلى جماعة لغوية واحدة:

فذلك أمر يرجع إلى نفس الأفراد فهم يعدون أنفسهم متكلمين بلغة واحدة وإن لم يحصل التفاهم الكامل بينهم لخصوصية كل جماعة جزئية داخل الجماعة الكلية بلهجة خاصة، فهم يجتمعون على تراث أدبي مشترك وتاريخ في مجمله مشترك، فكتاب سيبويه، رحمه الله، مصدر أصلي من مصادر العربية في مصر والعراق، على سبيل المثال، فلا يقع التفاوت من هذا الوجه، وتاريخ البلدين وإن اختلف في أحداثه الجزئية اختلافا بينا إلا أن الأصول العامة له واحدة فهو تاريخ إسلامي بالدرجة الأولى، وإن اختصت كل دولة بتاريخ حضاري خاص، ولكن الاشتراك في تاريخ ما بعد الإسلام قد أزال كثيرا من الفوارق بين الأمتين، بغض النظر عن النعرات القومية التي ظهرت في بدايات القرن الماضي، فذلك معيار ثقافي عام يجمع أصحاب اللغة الواحدة.

وأما المعيار اللغوي فهو صورة مثالية مجردة لما ينبغي أن تكون عليه لغة الكتابة من الفصاحة والبيان، وهذا أمر مشترك بين البلدين أيضا، إذ الفصحى لا تختلف باختلاف الأمصار ولذلك فإن كتب التراث توجد في كلا البلدين على حد سواء بخلاف كتب القصص الشعبي المكتوب باللغة العامية، على سبيل المثال، فإن لكل دولة منه موروثها الخاص بها فلا تشاركها الدولة الأخرى فيه، فالاشتراك كما قرر المحققون من أهل العلم يقع دوما في المعاني الكلية، فالتاريخ المشترك معنى كلي تندرج تحته شعوب العالم العربي، واللغة الفصحى المعيارية معنى كلي آخر، ولو وسعت الدائرة فشملت بقية دول العالم الإسلامي لازداد عدد الأفراد بسقوط قيد اللغة المعيارية، فإزالة القيد عن المعرف تزيد عدد الأفراد الداخلين في حده، وذلك، كما تقدم، جار على ما اطرد من عالمية رسالة الإسلام، فدائرتها دوما أوسع من أي دائرة اجتماعية أو لغوية أو تاريخية ...... إلخ فالجامعة الإسلامية خصوصا والدينية عموما أكثر الجامعات قبولا للأفراد الساعين إلى الالتحاق بها.

وثم أمر آخر تجدر الإشارة إليه وهو التداخل بين دوائر الأنماط اللغوية حتى داخل المجتمع الواحد فأستاذ الجامعة يتكلم مع الطلبة بنمط غير الذي يتكلم به مع الباعة، وغير النمط الذي يتكلم به مع أعضاء النادي الرياضي الذي يتردد عليه، وغير النمط الذي يتكلم به مع أبنائه، وغير النمط الذي يلاطف به زوجه ........... إلخ، فالبعد النفسي في هذا الموضع له تأثير ظاهر.

والله أعلى وأعلم.

هذه الفائدة أصلها من مبحث "التنوع اللغوي" من كتاب "محاضرات في علم اللغة العام" تأليف: د/ محمد حسن عبد العزيز، و: د/محمد يوسف حبلص.

ص108_115.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير