تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إلا ببذل سببه، ولا يكون ذلك إلا بإقدار الرب، جل وعلا، للعبد على ذلك، فلن يقدر العبد على مباشرة أي سبب شرعي أو كوني إلا إن أذن، تبارك وتعالى، به إذنا كونيا نافذا، فالعبد يتوكل على مجري الأسباب ويسعى في تحصيلها فذلك حده الذي ينتهي إليه تكليفه، وأما حصول المسببات فليس ذلك إليه، فمريض يباشر سبب الدواء فيشفى، وآخر يباشره فيهلك مع كون العلة واحدة والدواء واحدا، فلا يؤمر أحدهما بترك السبب لعدم جدواه، بل يؤمران جميعا بمباشرة سببه، وأما الشفاء فليس لهما أو للطبيب أو للملك الموكل بتأويل قدر الله، عز وجل، فيهم بإحياء أو إماتة، بل هو للرب، جل وعلا، وحده فهو متعلق مشيئته النافذة في عباده بكلمات الكونيات التي لا مبدل لها فقد سطرت في اللوح المحفوظ على حد الجزم والإبرام فلا تقبل نسخا أو تخصيصا.

فيصح من هذا الوجه إطلاق لفظ الخلق على العبد، لا على ما ذهبت إليه القدرية نفاة القدر الذين جعلوا العبد خالقا لفعله على معنى الإيجاد لا تقدير الأسباب بمباشرتها توصلا إلى مسبباتها كما تقدم.

ويصح إطلاق لفظ الخلق عليه بمعنى مباشرة أسباب الصناعات المشهودة، وذلك يتضمن أيضا معنى: التقدير فالصانع قبل أن يصنع صنعته يقدرها في ذهنه أو خارجه على ورق أو نحوه كما يقع في عالم البناء فقبل التشييد لا بد من رسوم تصميمية تضع التصور الأول، ثم رسوم تنفيذية يكون تأويلها ما يقع في عالم الشهادة من مباشرة أسباب التشييد، فهو يتضمن معنى التقدير فيما يقدر عليه العبد من الأسباب المشهودة، ويزيد عليه معنى التنفيذ، وتنفيذ العبد ليس إيجادا من العدم بل هو تحويل للمادة الموجودة سلفا من صورة إلى صورة فليس إيجاده مطلقا كإيجاد الرب، جل وعلا، من العدم، بل هو إيجاد لصورة من صورة موجودة سلفا، ولا يرد على ذلك الاستنساخ فإنه مادته وهي الخلية التي يتم استبدال نواة مخصبة بنواتها، موجودة سلفا، والنواتان موجودتان سلفا، فليس للمستنسخ إلا عملية الاستبدال، فلا يقدر على إيجاد الأنوية أو الخلابا من العدم، بل لا يقدر على التحكم في انقساماتها فهي تجري وفق سنن كونية محكمة ليس له إلا رد الفعل تجاهها، فإن شاء الرب، جل وعلا، أجراها على سنن الاستقامة كما في عامة الأجساد، وإن شاء أبطل السنة الكونية كما في حالات الأورام فخرجت الخلية عن معدل النمو الطبيعي إظهارا لقدرته عز وجل في خلق الأضداد وحكمته في مباشرة أسباب العلاج التي هي رد فعل العباد تجاه ما ينزل بهم من الأقدار الكونية التي قدر، تبارك وتعالى، لها أسبابا دافعة قبل أن تنزل، ونصائح خبراء التعذية من تناول مضادات الأكسدة الحيوية كعصير الليمون ونحوه لحماية الخلايا وتناول زيت الزيتون للحفاظ على معدل النمو الطبيعي للخلايا ........ إلخ كل ذلك من الأسباب الدافعة ابتداء، أو رافعة إذا نزلت من أودية يستشفى بها ففيها أوجد الرب، جل وعلا، قوى الشفاء.

وعلى هذا المعنى يحمل قوله تعالى: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، فإما أن يكون المعنى: فتبارك الله أحسن المقدرين، فتقديره أكمل وأنفذ من تقدير العبد على التفصيل السابق، أو: فتبارك الله أحسن الموجدين فإيجاده قد عم كل صور الإيجاد سواء أكان من عدم أم من صورة موجودة يفنيها عز وجل ليوجد منها صورة أخرى كما في أطوار الجنين، بخلاف إيجاد العبد الذي لا يتعدى حد التصرف في الصور بمباشرة أسباب تحويلها من هيئة إلى أخرى.

فيصح أن يكون الخلق على كلا المعنيين: الإيجاد أو التحويل: جنسا أعلى، فهو كلي في الذهن لا يوجد خارجه إلا مقيدا بموصوف قام به، على ما اطرد في جميع المشتركات المعنوية، فيندرج تحت جنس الإيجاد الكلي: إيجاد الرب المطلق فذلك أشرف أنواع هذا الجنس من الأفعال، وإيجاد العبد المقيد فيقتصر على التحويل من صورة إلى أخرى كما تقدم.

وكذلك يقال في جنس التقدير فهو كلي أو مشترك معنوي يندرج تحته جزئي: تقدير الرب، جل وعلا، المطلق، فهو، أيضا، أشرف أنواعه، وجزئي: تقدير العبد فلا يتعدى حد مباشرة السبب توصلا بما أودع فيه من قوى التأثير إلى مسبَّبِه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير