فصار إطلاق الوصف على الخالق، عز وجل، وعلى المخلوق جائزا لانفكاك الجهة على ما اطرد في باب الأسماء والصفات الإلهية، فالاشتراك واقع من جهة اللفظ الدال على المعنى، كلفظ الخلق، ومن جهة المعنى الكلي المشترك، فينزل منزلة المشترك المعنوي في الذهن الذي تتوارد عليه المقيدات خارجه، فلا يمنع تصوره وقوع الشركة فيه لكونه كليا مجردا من كل قيد، فإذا قيد خارج الذهن امتنعت الشراكة فقيل: هذا خلق الله حقيقة في فعل الرب، جل وعلا، فرعا عن ذاته القدسية التي قام بها الوصف، و: هذا خلق فلان من البشر حقيقة في فعل العبد، فرعا عن ذاته الأرضية التي قام بها الوصف. فهو حقيقة في كلٍ بحسب حقيقة ذاته التي قام بها، فخلق الله من الله، وخلق العبد من العبد.
ومن أهل العلم من جعله حقيقة في الخالق، عز وجل، مجازا في العبد، وأما نفاة الصفات فقد جعلوه حقيقة في العبد مجازا في الرب، جل وعلا، فجعلوا العبد أكمل من الرب إذ اتصف بصفات وجودية لها حقيقة خارج الذهن، بخلاف الرب، جل وعلا، عندهم فقد جردوه من كل أوصاف كماله، بل غلا بعضهم فجرده من أسمائه.
وإلى ذلك أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:
"وهذه المعاني التي تضاف إلى الخالق تارة وإلى المخلوق أخرى تذكر على ثلاثة أوجه:
تارة تقيد بالإضافة إلى الخالق أو بإضافته إليها كقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} الآية.
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.
وتارة تتقيد بالمخلوق كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ}.
وتارة تطلق مجردة.
فإذا قيدت بالخالق لم تدل على شيء من خصائص المخلوقين.
فإذا قيل علم الله وقدرته واستواؤه ومجيئه ويده ونحو ذلك كانت هذه الإضافة توجب ما يختص به الرب الخالق وتمنع أن يدخل فيها ما يختص به المخلوق.
وكذلك إذا قيل: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ}.
كانت هذه الإضافة توجب ما يختص بالعبد وتمنع أن يدخل في ذلك ما يختص بالرب عز وجل.
وإذا جرد اللفظ عن القيود فذكر بوصف العموم والإطلاق تناول الأمرين كسائر الألفاظ التي تطلق على الخالق والمخلوق.
وهذه للناس فيها أقوال:
قيل إنها حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق كقول أبي العباس الناشىء.
وقيل بالعكس كقوله غلاة الجهمية والباطنية والفلاسفة.
وقيل حقيقة فيهما وهو قول الجمهور.
ثم قيل هي مشتركة اشتراكا لفظيا وقيل متواطئة وهو قول الجمهور.
ثم من جعل المشككة نوعا من المتواطئة لم يمتنع عنده إذا قيل مشككة أن تكون متواطئة ومن جعل ذلك نوعا آخر جعلها مشككة لا متواطئة.
وهذا نزاع لفظي فإن المتواطئة التواطؤ العام يدخل فيها المشككة.
إذ المراد بالمشككة ما يتفاضل معانيها في مواردها كلفظ الأبيض الذي يقال على البياض الشديد كبياض الثلج والخفيف كبياض العاج والشديد أولى به.
ومعلوم أن مسمى البياض في اللغة لا يختص بالشديد دون الخفيف فكان اللفظ دالا على ما به الاشتراك وهو المعنى العام الكلي وهو متواطىء بهذا الاعتبار وهو اعتبار التفاضل يسمى مشككا". اهـ
"الجواب الصحيح"، (2/ 552، 553).
فإذا جاء التقييد بالنسبة إلى الرب، جل وعلا، أو العبد، كان الوصف المنسوب بحسب حقيقة المنسوب إليه وانتهى الإشكال ابتداء.
وإذا أطلق فإن اشتراك الرب، جل وعلا، والعبد فيه إما:
أن يكون حقيقة في العبد مجازا في الرب، جل وعلا، وهذا أفسد الأقوال كما تقدم بيانه.
أو: يكون حقيقة في الرب، جل وعلا، مجازا في العبد.
أو: يكون حقيقة في كليهما فينزل منزلة المشترك المعنوي فلا يلزم من الاشتراك في أصل المعنى المجرد الاشتراك في حقيقته خارج الذهن، بل لكل حقيقته خارج الذهن فللرب، جل وعلا، حقيقة ذات قدسية وصفات علية تليق بكماله لا يعلمها إلا هو، وللعبد حقيقة ذات وصفات تليق بنقصانه، فيصير الاشتراك من باب التواطؤ في المعنى الكلي في الذهن دون الحقيقة الجزئية خارجه، فلكل، كما تقدم، وصف يليق بذاته كمالا أو نقصانا.
¥