[وتسمر الجدة .... مع الماضي]
ـ[ام سيرين]ــــــــ[07 - 03 - 2009, 03:28 م]ـ
بسم الله الرحمان الرحيم
سقط المطريستجمع قواه على مهاجمة ذرات الحرارة المتبقية على البسيطة، ويدفن الحركة تحت أقبية المدافئ، أين السكينة تحملق بنظرتها إلى الفرائس المرتعشة، والقلوب التي راحت تتمتم في أحاديث متباينة.
كان الشتاء ... وكانت القصص تُسردُ، والعجائزُ تُلوّحُ بماض انفردبالتآخي والتضامن والطيبة.
كانت الجدة تقول: نغزل الصوف لننسج القشابية والبرانيس، والرجال يتبارون على أيها أحسن في التفنن والإبداع، وعلى أيها أكثر إعجابا وإقتناء، وأنامل النسوة تتنافس في الجودة والعطاء، لا تلبث الأسواق تزهو بالزرابي، والأفرشة، وعبق
التراث يعطر الأجواء.
ايه .... أين نحن من مثل تلك الأيام وتسرح الجدة في نشاطها السردي، ليقاطعها الأب: أتدرين أمي عمي الحاج مصطفى
لما سقط بيت جاره الهاري، فجمع أهل القرية وأعادوا بناءه وتأثيثه ولما فرغوا من العمل دعا الجميع إلى بيته للعشاء، فذبح عجلا وأقام إكراما تلاقت فيه القلوب على المودة قبل الأجساد، وأ ُشبعتْ بالأخوة، وامتلئت بالنشوة وهي تتفنن في المسامرة، وعند الإفتراق دعوا له بالبركة وزيادة الخير.
ايه يا ولدي لا تذكرني، تلك الأيام لن تعود كانت البركة في الوقت، في الصحة، في الجلسة، والقناعة كانت تاجا على رؤوسنا
لا نملك شيئا لكن نحمد الله ونطمع في الله حتى تأتينا نجدته وكرمه، أما اليوم ماذا أقول؟ ذهب طعم الجوار، وقُطعت الأرحام فتأتي المواسم فلا نرى إلا العطش الروحي، والنكد، والمرض، والغربة حتى ولو نحن مع الناس هناك غربة، غربة الكلمة، غربة الإستئناس، غربة المحبة، غربة الضحكة، حتى الضحكات البريئة ماتت وأ ُقْبرتْ حلاوتها، وخلفتها الشكاوي المتتالية، وعدم الرضى والقناعة بالواقع، الكل يفزع من الإبتلاء، الكل يخشى الألم، والكل يهرب من ذاته إلى ذاته الفانية.
صدقتِ أمي، طغا الشر، وطغت الشهوات والتطلع إلى مافي أيدي الآخرين، حتى أصبح الإنسان يتهرب من لقاء أخيه خشية الإيذاء أو الوقوع معه أو بسببه في المعصية، ضعفت الرقابة النفسية ومات الحس الإنساني وتمادى الشر في زحفه والفراغ في تشويشه على العقل فقتل في الإنسان الحكمة والتروي ورمى به إلى أحضان الإيذاء وحين يستفيق يندم، ساعتها لا ينفع الندم.
الشتاء بارد هذه السنة أمي، نعم يا ولدي لكن له الفضل في أن جمعنا هذه الليلة، ضحك الأب ضحكة الواعي لما تقول ثم بادرها بقوله: اشتقنا لأكلاتك الشعبية يا أمي في مثل هذه الأوقات ....
المحاجب، القرصة، الشخشوخة الحارة.
ايه ..... يا بني، كانت لما كنت!!!
أنا الآن كما ترى أ ُ كلة غير مطبوخة وتضحك ... كتلة ضغط،
وصداع، وسكر، وروماتيزم تُحرك روحا يائسة انزوت تتغذى على ماض اندثر، ايه ... وهذا عهدكم عهد المقليات والمشويات ثم ترسل الجدة ابتسامة فاترة تقبلها بيد منحنية على خدها الشاحب
كانت الأمطار تسقط، وأحفادها يتلذذون بالحديث، إلى أن تعالى صوت والدتهم، لماذا لم تناموا بعد؟ كل واحد يلتحق بفراشه لينام، غدا عندكم دراسة ولا مجال للسهر، لا يا أمي، إن حديث جدتي شيق وممتع، قالت: إسرعوا الوقت متأخر، إذهبوا للنوم.
نظرات تأسف تُرْسلُ من الجدة، لماذا لا نواصل السهر؟،أنا لا يأتيني النوم الآن، ذهب الأبناء، وذهب الأب، وبقت الجدة لوحدها رفقة نفسها يُكملان السهرة.
إنها تبتسم، والغرفة مظلمة إلا من بصيص نور قادم من الموقد
نعم يا أبي سأجلب العلف للبقرة، أنا مريض بنيتي كما ترين، ولا أقوى على فعل ذلك وعندما أ ُُشفى أذهب إلى السوق وأشتري لك هدية، هدية!!! ... فرحت كثيرا، واعتنيت بالبقرة تغذية ونظافة، كثيرا ما كنت أغني أغاني الثورة وأنا هناك في الحقل، والبقرة تنظر إلي تردد معي خوار الرضى وكأنها تشاركني غبطتي، كنت كل يوم أدعو الله أن يُشفي والدي ليأتيني بالهدية.
مر الشتاء، وجاء الربيع يتسارع بخضرته وأقبلت الدنيا معه زاهية، مستبشرة، وتماثل والدي للشفاء، وكنت أسوق أحلامي إلى ماوراء الهدية.
ذهب والدي إلى السوق، ساعتها لم أدخل البيت، تحججت بالبقرة ومسكتها من اللجام وأسرعنا إلى حافة الوادي وقلبي معلق برجوع والدي والهدية، وعاد الأب وقلبي في خفقان، تناول غداءه وارتاح قليلا ثم ناداني: تعالي إليك ما وعدتك به وسلمني إياها، ازداد قلبي في الخفقان وارتجفت يداي وانحنيت لرؤتها فإذا هي .......... مغزلُ ُ.
ضحكت ... ثم بكيت، ضاعت أحلامي، كنت أظنه فستانا جميلا
أتباهى به في عرس جارنا تلك السنة، رمقني أبي بنظرة حنو ثم قال: أنا أهديتك ما أعظم من المغزل يا بنيتي لا تنزعجي،
أهديتك الحرفة، قد تحتاجين إليها يوما.
وتستجمع الجدة أنفاسها، ايه كم أنت حكيم يا أبي، وأخذت تبكي ثم استوقفت نفسها .. لا تبكي أنت إمرأة قويت ألم تكبري على الأحلام؟ .. وتكمل السمر، كان زواجي بمجاهد ذاد عن الوطن وترك لي ثمرة من ثماره في الدنيا إنه "عمار" وتلفت العجوز:عمار، عمار. اوه أصبحت أ ُخرّ ِفُ إنه نائم، وتكمل حديثها ازدان فراشي ب"عمار " وفرحتنا به سترت ماضي الفقر، كان أبوه رجلا مؤمنا، حافظا لكتاب الله، عشت معه بضع سنين ثم نال الشهادة في الحرب التحريرية، وكبرت مع نفسي وعمار واعترضتني مآس شتى وعبء المسؤولية عند شبابي، حينها تذكرت الهدية، فأخرجتها ورحت أنسج الإنتظار على وقع المغزل المهتز بين حنايا أناملي ... ويأتي القوت، كان الإستقلال على وشك الوصول، وتطلع الجزائريين إليه في شوق كشوقي للهدية، واستقرت الأوضاع، وغادر الإستعمار البلاد ... وتستدرك الجدة جسدها أوه تعبت بصوت مرتفع أريد أن أنام فترتب الوسادة جيدا وتلف جسدها بالغطاء لتستسلم للنوم.
كانت الساعة الواحدة ليلا، والأمطار لم تكف عن التساقط بعد ويخرج " عمار " ألم تنامي بعد يا أمي، سمعت تنهداتك وبعض التمتمات، هل تشعرين بشئ، لا يا ولدي إذهب وأكمل نومك، كنت أتسامر مع الماضي.