[" أم محمود "]
ـ[أمة الله الواحد]ــــــــ[02 - 03 - 2009, 06:38 م]ـ
نشأت " سمية " في " رام الله " طفلة تلمح في عينيها الذكاء، وعلى وجهها الطفولي دلائل عزة وإباء، لا تنزل دمعتها حين تنزل دموع الأطفال على قطعة حلوى حُرموا منها خوفا على أسنانهم أو عند منعهم من مشاهدة المزيد من برامج التلفاز.
حين تناديها فطرتها التي لم تشب عن الطوق بعد، فتذهب إلى رفيقاتها للعب أمام منزل إحداهن، فحينها لا تجدها إلا أختا كُبرى تخاف على الجميع فتنبه هذه أو تلك بتوخي الحذر وعدم الاندفاع.
اعتادت " سمية " على أصوات القصف، وعلى سماع أنباء سقوط المنازل هنا و هناك، و رغم هذا لا تستطيع أن تنزع من قلبها الخوف من فقدان أهلها والحرمان من دفء العائلة.
ذات يوم اشتد قصف العدو اليهودي الصهيوني على بلدتها، فاحتمت بالله وشبكت أصابع يديها الصغيرتين وقربتهما إلى شفتيها ودعت الله أن يلطف بأهلها وألا ينزل بأحدهم سوءا، واشتد القصف حتى كأن صوته تتردد أصداؤه داخل بيتهم وما هي إلا دقائق و الصراخ يعلو في جميع الأرجاء.
لقد سقطت عدة منازل وهرع الجميع لنجدة بعضهم، وكان من ضمن المنازل المُدمرة منزل جارتهم الحنون " أمُّ محمود " وقد أخذت تبكي فقد اُستشهد محمود وابنه الرضيع واُصيبت زوجه بجراح غائرة فنقلوها إلى مشفى رام الله ومعها الكثير من الجيران.
وكعادة أهل رام الله في مثل هذه المواقف تواسي النساء بعضهن بعضا وتشد كل واحدة فيهن من أزر جارتها ويتعاون على أمر الدنيا وما يضمن للأطفال والرجال الاستمرار في عمليات المقاومة.
بعد انتهاء القصف و بدء شبه الهدنة، لم تنس " سمية " شكل " أمُّ محمود " وهي تبكي محمودا، وظل هذا السؤال يراودها: لماذا بكت محمودا ولم تبكِ " عبد الله " و " عبد الرحمن " رغم أنهما اُستشهدا معا في ليلة واحدة منذ أكثر من خمس سنوات؟ لقد زغردت " أم ُّمحمود " وارتدت البياض،وقالت لكل من قابلها: زففت اليوم ابنيّ إلى السماء فالحمد لله الذي رزقني شهيدين وليس شهيدا واحدا.
لم تصل إلى إجابة فذهبت إلى أمها وقالت لها: أمي لماذا بكت خالتي " أمُّ محمود " محمودا، ولم تبكِ " عبد الله " و" عبد الرحمن "؟
التفتت إليها أمها وقالت لها: حبيبتي، حين تكبرين، ونزفك إلى الشاب الذي ستتزوجينه سأخبرك وقتها بالسبب.
مرت السنون، وتزداد " سمية " شبابا مفعما ببريق عجيب تتشبع به روحها وعيناها، تحسبها قد أوتيت حكمة الشيوخ بينما عمرها لم يتجاوز العشرين، درست تاريخ بلدها، وذاقت مرارة ضياعه، وعانت آلام الدفاع عنه، وآمنت أن استمرار التناسل في وطنها هو أداة استمرار مواجهة العدو، فكأنما عاشت فوق عمرها أعمارا مضاعفة.
انصهرت شخصيتها في بوتقة ذات رافدين يصبان فيها، الجانب الديني، والجانب التاريخي، فلا تستطيع فصل أحدهما عن الآخر في مقوماتها البنائية،فكم من مرة ناقشت معلماتها في أحداث تاريخية، وكم من مرة أثارت انتباه عمها الأزهري بثقافتها الإسلامية.
بعد أن أنهت دراستها الثانوية، وفي يوم تهنئتها بنيل شهادتها، أخبرتها أمها أن هناك من تقدم لطلب يدها، إنه " باسل " ابن جارهم، وبعد موافقتها، بدأت مع أمها في تجهيز مستلزماتها، وكان الأمر سريعا وليس هناك داع للتأخر وخاصة أن الجميع أهل يعرف بعضهم بعضا، جاء يوم الزفاف، ووُضعت الزينة على أعمدة الشارع، وحضر الشباب أصحاب " باسل " وحضرت الفتيات صويحبات " سمية " واستعدت العروس بردائها الأبيض وتوسطت الجميع كحبة العقد، وجاءت أمها وهمست إليها في أذنها:
- " سمية " ألا تريدين معرفة الجواب؟
نظرت إليها " سمية " وقد ازداد بريق عينيها العسليتين لمعانا، فزادها جمالا فوق جمالها، وقالت:
- بلى، أريد، وأنتظره منذ ذلك اليوم.
ابتسمت أمها وقالت:
- لا يراودني أدنى شك في فراستك و سرعة بديهتك.
حين اُستشهد "عبدالله" و"عبدالرحمن" لم تبكهما " أمُّ محمود "، وحين اُستشهد "محمود" بكته أمه، حبيبتي "سمية" اعلمي أننا معشر أمهات فلسطين، ننجب أبنائنا، ونرضعهم جهادا وعزة، فأنت منذ نعومة أظافرك تنبضين عزة وإباءً، ونغرس في نفوسهم استمرار العطاء لهذا الوطن، ورغم ما نعيشه من آلام ومن سفك دمائنا، إلا أننا لا يخبت الأمل في نفوسنا، ولن تتضاءل العزائم في عروقنا، وسنظل نضخ الأبناء في نهر وطننا، فيكملون المسيرة من بعدنا ولا نستسلم للعدو في ديارنا.
" سُميتي " إننا أمهات فلسطين نقدم أبنائنا لوطننا ونزفهم إلى السماء، ولكن هناك شئ نحتفظ به في مكنون صدورنا ولا نجهر به لأحد، إننا نحتسب جميع أبنائنا شهداء منذ أن يغادروا أرحامنا، ولكن نستثني واحدا منهم لشيخوخاتنا ونعتبره عكازا لانحناء ظهورنا، فإذا اختاره الله شهيدا، فرغما عنا حينئذ تذرف العيون دموعها، بينما نزغرد حين يُستشهد إخوانه، فهل علمتي الآن لماذا بكت " أمُّ محمود " حين اُستشهد " محمود " وزغردت حين اُستشهد" عبد الله " وعبد الرحمن "؟
ردت " سمية " وقد اقشعر جسدها من وقع كلمات أمها وازداد البريق والإباء في نظرات عينيها:
- نعم أمي قد علمت السر، ولكن أمي حين يرزقني الله بالصبيان سأسميهم - إن شاء الله - محمودا وعبد الله وعبد الرحمن، وسأعلمهم كما علمتيني حب هذا الوطن وسأغرس فيهم عشق الجهاد وترقب حرب اليهود، وأهيئهم أن النصر لنا فحتى الشجر سيشهد عليهم وحتى طوب الأرض سيشكو منهم، وأن الساعة لن تقوم حتى نقاتلهم فنقتلهم، أمي الحبيبة، حين يستشهد محمود وعبد الله وعبد الرحمن لن أبكيهم، وسأزفهم جميعا إلى السماء، وسأخبر بناتي أن ينجبن ويشددن عضد وطنهن بشباب هم جنود في صفوف الجهاد.
عانقت " سمية " أمها، وخرجتا إلى المعزومين، ونظرة الإصرار تملأ عيني " سمية " ممزوجا معها شعور جديد ملك عليها جوارحها، إنه شعور " التحدي ".
¥