أتعلم بسام لطالما ذكَّرتني بأبي وأنت لا تعلم , أبي الذي مضى على حدِّ قول أمي دون أن يكون له أعداء. أذكر أن أمي قالت لي ذات يوم بعدما علا صوتي على قريب لي ودار بيننا لغط وجدل: ((بني: الناس لا تُمْلك بالقوة والصراخ , وإنما تُمْلك بلين الجانب والاحترام. لو كان أبوك بيننا لرأيت كيف يحترم الناس ويحترمه الناس وما ذاك إلا بسبب أخلاقه وتسامحه , كان يقابل الحب بالحب والكره بالحب. كان صادقا مع نفسه قبل أن يكون صادقا مع الآخرين)).
وها أنا بسام أرى كلام أمي ماثلا بين عينيَّ فيك. تقف مع المنكوب وتسْمع من المهموم , تصادق الناسَ لتنفعهم لا لتضرهم أو لتأخذ منهم مصلحة مع أننا في زمن غاب فيه الضمير ودُفن فيه الصدق.
بسام في فلسفة يصاحبها حركة في اليد: ((طلال ... الحياة علمتني أن: أن أترك بسمةً على شفةٍ خيرٌ من أن أترك دمعةً على خد وإن لم تستطع رسم بسمة فلا أقل من ألا تترك أثر جرحٍ أو وجع ألم)).
طلال: بسام أرجوك دعنا من حديث الجروح والآلام فما ذُكرتْ إلا ورأيتُ أمي.
بسام: في نبرة حيرة واستفهام يخالطه تعجب ماذا؟!
طلال: نعم بسام. أمي لا تتكلم عما بداخلها ولستُ أذكر أنها تشكَّت أو توجَّعت , ولطالما أشعرتني وأختي بالسعادة والفرحة والبسمة والسرور
و لكنني على يقينٍ تام بأنها بسمة مصطنعة , وسرور مفتعل وكأنها كانت تريد ألا نتألم بألمها. أرى الحزن في صمتها وأرى الألم في نبرة صوتها هي كتوم لا تنفِّس عما فيها ولكنَّ مافيها يفضح سترها ويهتك سرَّها. ليتني أعلم مابها.
أذكر أنني ذات يوم فاتحتها وأردتُ بسط الحديث معها فلوت بوجهها عني برهة ثم عادت إلي بوجهٍ اختلط فيه النور بالظلام وكأنه نورالمستقبل وظلام الماضي وببسمة تريك عبرةً في ضحكةٍ قالت:
كم أنا فخورة بك طلال وأسأل الله سبحانه وتعالى ألا يخيب رجائي بك فلنعم الولد أنت وبحنان أمٍّ حبيبة دارت دفَّة الحديث إلى حديثٍ عن المستقبل وماتتوسَّمه فيَّ.
شعر بسام وكأن الحديث أنهك طلال , وأشعل في داخله نارا ربما تقضي
عليه إن لم يبادر بإطفائها فقال: وأنا أتوسم فيك خبزا _ عفوا خيرا _ ولو لم أتوسَّم فيك الخير لما صاحبتك.
ابتسم طلال وأعاد كلمة بسام _ تتوسم في خبزا _؟! يبدو لي أنك جائع!
وعلى الفور ابتسم بسام وكأنه بهذه الابتسامة يرفع لواء الانتصار وكسب المعركة إذ استطاع أن يُخْرج طلال من جوٍّ كئيب وروح معذَّبة وحتى يتوِّج هذا الانتصار ويتممه قال مباشرة:
أها هي هذه البسمة التي انتظرتها فلا تحرمني منها بربك طلال.
يرفع بسام يده على مقدمة رأسه ويشهق مطأطئا رأسه ومغمضا عينه وكأنه بهذه الحركة يشعر طلال بنسيان شيء , ويستعجله قائلا:
هيا هيا طلال بسرعة فنحن على موعد مع مراد و عارف. ويبدو أننا تأخرنا عليهما.
ترفع الغطاء عن وجهها , ثم وبحركة بطيئة تميل برأسها نحو نافذة , أشعرتها بأمر مريب وحدث غريب فالنور يُشعر بأن الصبح قد بان وشمس النهار قد حجبت نجوم الليل التي كانت ترسم شكلا جميلا على نافذتها , لم تصدق مرأى عينيها فأغمضتهما وعركتهما وكأنها تريد أن تتأكد مما رأت ثم مدَّت يدها نحو جوالها وإذا بالساعة تشير إلى الثامنة والنصف صباحا.
خاطبت نفسها ياترى لمَ تركتني أمي ولم توقظني للجامعة وقبل الجامعة للصلاة آمل أن تكون بخير , ثم تقوم بخطا حائرة وتتوضأ وكأنها تريد أن تتمثل بحديثٍ كانت أمها غالبا ما تكرِّره عليها عندما توقظها فترى فيها فتورا أو كسلا ((أرحنا بالصلاة يا بلال))! وهاهي الآن تؤدي فرضها الديني علها تستشعر الراحة , وفعلا صاحبتها طمأنينة وسكينة ولكن سرعان ما عاد لها انشغال الفكرعلى أمها , فمع أن عمرها يقارب العشرين إلا أنها لا تتذكر أبدا أنَّ أمها في يومٍ ما نسيت أن توقظها للصلاة.
وهذا هو ما أشعرها بالخوف والحزن والقلق.
خرجت من غرفتها متجهة نحو غرفة أمها. هدوء البيت طالما أشعرها بالدفء والحنان ولكنه في هذه الساعة أصبح مصدر قلقٍ واضطراب , تصل إلى باب غرفة أمها , الباب مغلق أرادت أن تطرق الباب وما إن استوت تلك اليمين بمحاذاة الكتف وهوت متجة صوب الباب حتى أمسكت بها قبل أن تقرع الباب .............
وترقبوا الجزء الثالث
خالص تحية عاش ولكن؟! حقوق الطبع محفوظة
¥