وأما أن أهارش القائل فأحميه وأهيج طباعه وأستثير غضبه، فينبعث منه في صديقي أضعاف ما أكره، فأنا الجاني حينئذ على صديقي، والمعرض له بقبيح السب، وتكراره فيه، وإسماعه من لم يسمعه، والإغراء به، وربما كنت أيضاً في ذلك جانياً على نفسي ما لا ينبغي لصديقي أن يرضاه لي، من إسماعي الجفاء والمكروه، وأنا لا أريد من صديقي أن يذب عني بأكثر من الوجه الذي حددت، فإن تعدى ذلك إلى أن يساب النائل مني حتى يولد بذلك أن يتضاعف النيل، وأن يتعدى أيضاً إليه بقبيح المواجهة وربما إلى أبويّ وأبويه على قدر سفه النائل، ومنزلته من البذاءة وربما كانت منازعة بالأيدي، فأنا مستنقص لفعله في ذلك زارٍ عليه، متظلم منه، غير شاكر له.
لكني ألومه على ذلك أشد اللوم وبالله تعالى التوفيق.
وجدت أفضل نعم الله تعالى على المرء، أن يطبعه على العدل وحبه، وعلى الحق وإيثاره.
وأما من طبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه، فلييأس من أن يصلح نفسه أو يُقَوِّم طباعه أبداً، وليعلم أنه لا يفلح في دين، ولا في خلق محمود.
وأما الزهو، والحسد، والكذب، والخيانة، فلم أعرفها بطبعي قط، وكأنني لا حمد لي في تركها، لمنافرة جبلتي إياها، والحمد لله رب العالمين.
من عَيْبِ حبِ الذكر، أنه يحبط الأعمال إذا أحب عاملها أن يذكر بها، فكاد يكون شركاً، لأنه يعمل لغير الله تعالى، وهو يطمس الفضائل، لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حباً للخير، لكن ليذكر به.
أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس فيك، لأنه نبه على نقصك،
وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك، لأنه نبه على فضلك،
ولقد انتصر لك من نفسه بذلك، وباستهدافه إلى الإنكار واللائمة.
لو علم الناقص نقصه لكان كاملاً.
لا يخلو مخلوق من عيب، فالسعيد من قلت عيوبه ودقت.
الإخوان والنصيحة والصداقة
إستبقاك من عاتبك، وزهد فيك من استهان بسيئاتك.
العتاب للصديق كالسبك للسبيكة، فأما تصفو وإما تطير.
من طوى من إخوانك سره الذي يعنيك دونك، أخون لك ممن أفشى سرك، لأن من أفشى سرك فإنما خانك فقط، ومن طوى سره دونك منهم، فقد خانك واستخونك.
لا ترغب فيمن يزهد فيك، فتحصل على الخيبة والخزي.
لا تزهد فيمن يرغب فيك، فإنه باب من أبواب الظلم، وترك مقارضة الإحسان، وهذا قبيح.
أكتم سر كل من وثق بك، ولا تفشي إلى أحد من إخوانك ولا من غيرهم، من سرك ما يمكنك طيه بوجه ما من الوجوه، وإن كان أخص الناس بك.
وابذل فضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك، ولكل من احتاج إليك وأمكنك نفعه، وإن لم يعتمدك بالرغبة، ولا تشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك عز وجل، ولا تبن إلا على أن من أحسنت إليه أول مضر بك، وساع عليك، فإن ذوي التراكيب الخبيثة، يبغضون لشدة الحسد كل من أحسن إليهم إذا رأوه في أعلى من أحوالهم.
لا تنصح على شرط القبول،
ولا تشفع على شرط الإجابة،
ولا تهب على شرط الإثابة،
لكن على سبيل استعمال الفضل، وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة، وبذل المعروف.
حد الصداقة الذي يدور على طرفي محدوده هو: أن يكون المرء يسوءه ما يسوء الآخر، ويسره ما يسره، فما سفل عن هذا فليس صديقاً، ومن حمل هذه الصفة فهو صديق، وقد يكون المرء صديقاً لمن ليس صديقه.
وليس كل صديق ناصحاً، لكن كل ناصح صديق فيما نصح فيه.
وحد النصيحة هو أن يسوء المرء ما ضر الآخر، ساء ذلك الآخر أو لم يسؤه، وإن يسره ما نفعه، سر الآخر أو ساءه، فهذا شرط في النصيحة زائد على شروط الصداقة.
وأقصى غايات الصداقة التي لا مزيد عليها من شاركك بنفسه، وبماله لغير علة توجب ذلك، وآثرك على من سواك.
ليس شيء من الفضائل أشبه بالرذائل من الاستكثار من الإخوان والأصدقاء، فإن ذلك فضيلة تامة متركبة، لأنهم لا يكتسبون إلا بالحلم، والجود، والصبر، والوفاء .. والعفة ... وتعليم العلم، وبكل حالة محمودة.
¥