هذا ما نشأت عليه العلوم الإسلامية الأولى، وتابعت خطاه سائر العلوم من بعد، كالطب والفلك والفيزياء والرياضيات، وما تزال المصطلحات التي ثبتوا دلالاتها آنذاك سارية المفعول إجمالا حتى اليوم.
ومن فضل القول التنويه هنا بأن المقصود بهذا الحديث ليس البحث في مصطلحات العلوم الطبيعية والتقنية، وهي قليلا ما تتعرض للاختلاف والتزييف، بل مصطلحات ما يُسمى العلوم الإنسانية، كالفلسفة والفنون والآداب والثقافات والأفكار والسياسة والاقتصاد وغيرها.
المقصود ما يُؤثر في الإنسان نفسه وفي تصوراته ومناهجه وقيمه وثقافته وأذواقه وأخلاقه وأساليب عمله وتعامله مع سواه، وذاك ما يفتح طريق النهوض فيصنعه الإنسان المؤهل للنهوض، إن توافرت له أسبابه الأخرى، وذاك ما نحتاج إليه أمس الحاجة في المرحلة الراهنة.
سبل ردم الفجوة بين النخب والجماهير
وإن من أهم جوانب استيعاب المرحلة التاريخية المعاصرة والتعامل مع معطياتها العملَ على رَدْم الفجوة الكبيرة بين ما يُسمى النخب وبين جماهير الأمة، لاسيما جيل المستقبل منها.
ومن الواضح أن ما يُطرح في الساحة الفكرية والأدبية والثقافية في الآونة الأخيرة بدأ يتجاوز حقبة الصراع المطلق لتتداخل فيه محاور متعددة للحوار والبحث عن إمكانات التلاقي، وهو ما تختلف أساليبه وتتفاوت حدة الاختلافات فيه والمساعي المبذولة لتجاوزها، ولكن تبقى الصورة بمجموعها مؤشرا إيجابيا في اتجاه صحيح.
رغم ذلك يبدو أن الحوار يجري بين فئات محدودة العدد، بمعزل عن عامة الشعوب، لاسيما جيل الشبيبة الذي يمثل النسبة الأكبر من السكان، والذي يحمل على عاتقه مسئولية بناء المستقبل.
وليس صحيحا تعليل هذه الفجوة بتعميم الاتهام القائل إن العزوف عن القراءة والمتابعة الجادة هو جوهر مشكلة عزلة النخب جماهيريا؛ إن عزلة النُخب لا ينبغي اختزالها بتحميل المسئولية للجماهير، بل توجد عوامل عديدة أخرى ليست موضع الحديث هنا، إنما يبقى العنصر الحاسم هو أن مسئولية الوصول بأفكار مَن ينتسب إلى تلك النخب أو ينسب نفسه إليها بإبداع أدبي وعطاء ثقافي وطرح فكري هي مسئوليته التي تفرض عليه هو أن يراعي واقع القارئ المستهلك واحتياجاته، في مضمون إنتاجه وأسلوب تعبيره.
ومن المغالطات الخادعة للنفس الزعم القائل إن هذا يهبط بمستوى الإنتاج، فقيمة الإبداع أو الفكرة أو الطرح الجديد ليست قيمة ذاتية بمعزل عن الوسط الذي ينتمي القلم إليه ويستهدفه، بل تعلو تلك القيمة بمقدار ما يتمكن صاحب القلم من الوصول بأرقى ما يستطيع عطاءه إلى أوسع قطاع ممكن من الوسط الاجتماعي الذي يحتضنه ويعتبر نفسه فيه من النخبة.
إن النماذج المعروفة من الإبداع العالمي التي تجاوزت الحدود وانتشرت في القارات الخمس ترجمةً وتفاعلا، لم تصل إلى هذا المستوى العالمي عبر مضامين وأساليب متميزة بخصوصيتها فحسب، بل من خلال قدرة أصحابها على الجمع بين الإبداعِ مضمونًا يمس احتياجات إنسانية جامعة، والعطاءِ أسلوبًا تستوعبه وتتفاعل معه أعداد كبيرة من أبناء الأسرة البشرية.
وإن تقديم الأفكار -بغض النظر عن قيمتها الذاتية- في قوالب تعبير مستعصية على الفهم إلا عند قطاع محدود من النخب نفسها، يساهم في بقاء تلك النخب وعطاءاتها فيما تسميه -وهما- برجها العاجي، بعيدة عن الشعوب وهمومها وتطلعاتها المستقبلية.
ومَن يتابع ما يُطرح حديثا من كتابات تحت عناوين متعددة للحوار الفكري الإيجابي المنبعث مجددا في هذه المرحلة، يمكن أن يرجح بقاء قسط كبير منه في واد، وجيل المستقبل في واد آخر، والمفروض أن يدرك الكتاب الذين يرون أنفسهم في موقع النخبة، أن القارئ ليس من نخبتهم بالضرورة، أم أنهم لا يكتبون إلا لها؟!
تساهم في هذه الظاهرة كثرةُ استخدام بعضِ الكتب الفكرية المنشورة حديثًا مفرداتٍ من قبيل: "ميتافيزيقي- أنثروبولوجي- إبستمولوجي- بروميثيوثي- كوسموبوليتي- هرمينوطيقا- سيميوطيقا .. "، أو من قبيل "عضواني- مواطنوي- طوباوي- دولتانية- تاريخاني- قيامي- جنساني .. "، والقائمة طويلة.
¥