تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويشير سياق الكلام أن الكاتب ينطلق غالبا من أن القارئ، الذي قد يعلم بوجود تلك الكلمات، لكثرة تداولها بمعانيها السطحية أو الشائعة، يجب أيضا أن يكون عارفا بخلفياتها الفلسفية، وربما بتناقض استخداماتها بين الكتاب أنفسهم، ثم عليه التسليم بما يقصده هو من معانيها، هي وأمثالها، وأمثالُها كثير، وإلا فكيف ينتظر من القارئ أن يتفاعل معها وفق استخدام الكاتب لها؟!

وليست المشكلة محصورة في مفردات أجنبية تُكتب بحروف عربية، بدلا من استخدام ما يغني عنها لغويا أو اشتقاق ما يقابلها من مفردات مبتكرة يأنس اللسان العربي لها، وتستحسنها النفس لسهولة انسيابها في نسيج اللغة الذاتية.

ويستحيل على أي حالٍ تعريبُ مصطلح أجنبي تعريبا قويما بمجرد كتابة اللفظة الأجنبية أو نطقها بحروف عربية.

كما لا تنحصر المشكلة في استخدام اشتقاقات قد يصلح القليل منها ولا يصلح الكثير، مما لم يعرفه الأقدمون ولا ابتكره المعاصرون ابتكارا سويا، إنما هي -في جوانبها الأخرى- مشكلة أن الكاتب ينتظر من عامة القراء أن يحمل كل منهم تحت إبطه عدة معاجم وقواميس؛ من أجل أن يفهم ما يخاطبهم به، أو أنه لا يخاطب عامة القراء أصلا، وذاك أدهى، والأمرّ منه أن من الكتاب من يريد أن ينسلخ القارئ العربي من جلده ليستوعب -عبر المستهجَن من الألفاظ والغريب من المصطلحات- ما يراد صبه صبًّا في عقله وقلبه!

ثم إذا بصاحب تلك المفردات والأساليب يشكو من غربة أفكاره جماهيريا، فيتهم الجماهير بالعزوف عن القراءة أو انخفاض مستوى الوعي أو الانغلاق تجاه أفكار "إنسانية عالمية" أو ما شابه ذلك.

ونتجنب في هذا المقام الإطالة بالوقوف عند اعتبارات أخرى مما يتصل بوجود مَن ينقل مصطلحات ومقولات أجنبية دون استيعابها إلا استيعابا سطحيا، وما يتصل بالعمل قصدا على التغريب اللغوي والفكري عموما، وجميع ذلك يجعل مَن يعزلون أنفسهم بالإصرار عليه يعجزون عن الوصول إلى أمةٍ لسانها عربي، ومكونات فكرها وتاريخها وأحاسيسها وأذواقها هي مكونات المنطقة الحضارية الإسلامية، الشاملةُ بتأثيرها جميعَ سكانها، على اختلاف انتماءاتهم العقدية والقومية.

ليس القارئ هو المسئول الأول عن ضمان شروط فَهْمِ ما يُطرح فكرا وأدبا وثقافة حوله، بل بداية المسئولية عند صاحب القلم، أن يوجد الشروط التي توصله إلى القارئ كما هو في واقعه الآني؛ ليؤثر عليه بقدر ما يتأثر هو بواقعه واحتياجاته، وهذا ما يسري على كل عطاء قولي وعملي.

ولدينا في ذلك على سبيل المثال ما قاله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ((حدثوا الناس بما يعرفون)) (1)، وما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((ما أنت محدث قومًا بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)). (2)

وتُنسب إلى الفيلسوف الألماني شوبنهاور كلماتٌ مفيدة بشأن أسلوب الخطاب والكتابة:

"إذا أردت إلقاء خطبة ناجحة استخدم كلمات مألوفة لقول الأشياء غير المألوفة".

"الذكي في المحادثة من يفكر بمن يتحدث إليهم أكثر من تفكيره بما يتحدث عنه، فإن صنع ذلك تأكد له أنه لن يقول ما يندم عليه لاحقا".

"كثرة الاستشهادات تزيد حق الكاتب أن يُنظر إليه أنه امرؤ واسع الاطلاع، ولكنها تُنقص نسبة أصالة عطائه .. وما قيمة الاطلاع دون عطاء ذاتي"!

"الذين يؤلفون خطبا صعبة، مظلمة، معقدة، مزدوجة المعنى، لا يعلمون على التحقيق كيف يقولون ما يريدون قوله، إنما لديهم وعي ضبابي يصارع حول فكرة ما، ولكن كثيرا ما يريدون أن يواروا عن أنفسهم وعن الآخرين عدمَ وجود شيء لديهم ليقولوه".

ولكن لعل مِن الكتاب مَن يريد فعلا استثارة إعجابٍ مصطنع لدى القارئ، ممزوجٍ بالرهبة تجاه علو كعب (!) صاحب القلم، المبدع في عالم اللغة والتعبير، وسعة أفقه في عوالم الفلسفة والثقافة.

قد يوجد مَن يظن حقيقةً أن هذا الانطباع المصطنع يوصل إلى الاقتناع تسليما بالمضمون دون استيعابه، لا أن يشكل النص حاجزا بين كاتبه وقارئه.

هذا ناهيك عن سبك العبارات سبكا يتفنن صاحبه في التصنع والتنطع والتعقيد فيه، كما تغتال صياغتُه تواضعَ العلم اغتيالا، بسكين تعالي معلمٍ شاخَ وشاخ علمه على تلاميذ صغار بين يديه، وبخنجر التكبر اعتدادا بالنفس وتعصبا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير