قال تعالى: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) ... (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) مريم؛ فهي قد بلغت بالإشارة أنها صائمة فكانت إشارتها قولا، وأشارت إليه ليكلموه، فكانت إشارتها قولا لهم.
وكل ما ورد في قصص في القرآن الكريم من "قال" أي بلغ بلسانه، وأخبرنا سبحانه وتعالى وبلغنا عن هذا البلاغ بكلامه، فكان في كلام الله تعالى قولهم وليس كلامهم ... فاعرف ذلك.
حتى أن بلاغ جبريل بالقرآن للنبي صلى الله عليهما سلام قولا لجبريل مع أن الكلام هو كلام الله عز وجل؛ قال تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) الحاقة. وقال تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) التكوير.
فما نقل لنا من قول في حديث الجارية هو بيان لما كان من إشارات بينتها أحاديث أخرى.
سادسًا: هل تفيد "في" الظرفية في كل أحوالها؟
إن استعمال القرآن الكريم لـ "في" جاء مع الحركة، واستعماله لـ "على" جاء مع الثبات.
قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) الشورى.
فمع الجري والحركة استعمل "في" البحر، ومع سكون الريح وثبات السفينة في مكانها على وجه البحر؛ استعمال "على".
وقال تعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) الملك
وقال تعالى: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) المائدة.
وقال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) الأنعام.
وقال تعالى: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ .. (26) المائدة.
فالمشي، والسعي، والسير، والتيه؛ وغير ذلك، فيها حركة مطلقة غير محددة، فاستعمل معها "في" ... ولا يعنى ذلك الدخول في جوفها إلا عند قصير النظر في اللغة ...
ولا تفسر "في الأرض" في الآيات السابقة بمعنى "على الأرض" فيجعل ذلك دليلا على أن معنى "في السماء" هو "على السماء" خلاف استعمالها العام في القرآن الكريم
فـ "في" مكونة من حرفين" هما الفاء والياء، والفاء مستعملة في لغة العرب للحركة، والياء للتحول؛ فمن اجتماع الحرفين حرى استعمال "في" في الانتقال والتحول، وعلى ذلك كان استعمالها في كل ما استعملت فيه.
ومع ثبات الميت وعدم حركته بعد هلاكه استعمل "على" بدلا من "في"؛ لأن هلاكه سيجعله ثابتًا في آخر مكان كان فيه؛
قال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ ... (45) فاطر.
قال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ ... (61) النحل.
ويبن تعالى أن عبادة يمشون بطريق ثابت في الأرض بلا تكبر ولا يستخفهم الجاهلون؛ فجعل "على" مكان "في"؛
فقال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) الفرقان.
أما قول فرعون في صلب السحرة بعد إيمانهم (في جذوع النخل) فإنه أراد أن تسيح لحومهم وشحومهم على النخل، زيادة في إرهابه للناس، لأن الصلب هو تعليق المقتول وعرض في الهواء ليتعفن جسده، ويسيل شحمه ولحمه، ولا يبقى إلى ما صلب منه؛ أي عظامه؛ فلذلك سميت هذه الطريقة بالصلب، وطريقة تعليقه على الخشب أو الشجر أو الجدار بالصليب.
قال تعالى: (قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) طه.
فقول فرعون بهذه الزيادة كان في هذا الموضع فقط، وبين ذلك بقوله " وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى".
فاستعمال "في" جاء مع الحركة؛ وقد تكون الحركة في شيء للوصول إلى المطلوب فيه، أو النظر فيه ليراه.
لذلك لا يصح الجزم أن يكون المقصود "بمن" في قوله تعالى "ءأمنتم من في السماء" هو الله عز وجل فلا البحث عن وجوده يكون فيها، ولا نظر إليه فيها، إلا أن يكون في الحركة فيها، أو النظر فيها، ما يكشف ويدل على أنه لا معبود فيها غيره سبحانه وتعالى.
كما قال تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) الأنعام. فالله تعالى هو المعبود؛ ومن كان معبودًا وجب عليه أن يعرف حال العابدين في سرهم وجهرهم أينما كانوا في السموات وفي الأرض، فحيثما وجد أحد في السموات والأرض كان الله تعالى يعلم سره وجهره.
ومثل ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) الزخرف.
فلم يقل "وهو الذي في السماء" أو "وهو الذي في الأرض" فكانت مطلقة؛ فتصرف إلى ذات الله؛ بل أتبعهما بـ "إله"، "فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ"، على أنه المعبود فيهما.
وما السموات والأرض إلى خلق يسير من خلق الله تعالى وسعهما كرسيه، والأرض قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه.
وهذا الأمر يحتاج إلى أدلة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة حتى لا يكون فيه قول.
وكل عالم يريد أن ينزه الله تعالى بقدر ما تيسر له ... ولهذا كان الخلاف بينهم في دراسة هذه المسألة وغيرها ... فيقع بعضهم في محظورات يؤخذ عليه بها.
والله تعالى أعلم.