تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

شرحناه هنا.

ولا أظن أن ثمة عاقلا يفهم طبيعة الإسلام يمكن أن يقول بهذا، إذ الإيمان بالإسلام لا يكون إلا بالعقل، فمتى قام فى العقل رفض لنبوة محمد لم يعد ثم موضع للقول بأن صاحب هذا العقل لا يزال مسلما. قد يقول مثل هذا الشخص إنه يحترم محمدا وإنه يرى فيه مصلحا عظيما أو شيئا من هذا القبيل، وهذا كله على العين والرأس، ومن حق صاحبه أن يقوله ولا نُكْرِهه على خلاف ما يعتقد، وإن لم يمنعنا ذلك من مناقشته ومخالفته، بل وتسخيفه إن وجدنا ما يدعو إلى هذا، بالضبط مثلما أعطى هو لنفسه الحق فى أن يقول فى محمد ومهمته كلاما يخالف ما نؤمن نحن به. لكن هذا شىء، وزعمه أو زعم من يرافئونه على هذا الكلام أنه لا يزال مسلما شىء آخر. الواقع أن صاحب هذا الكلام إما أن يكون كذابا أو منافقا أو مصابا بانفصام فى الشخصية أو حائرا يمزقه الشك ولا يستطيع أن يرسو على بَرٍّ مريح.

لقد بحثت هذه القضية سنة 1986م فى كتابى عن "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، وكان طه حسين قد قال قولا كالذى قاله جعيط، إذ نادى بأن على من يريد دراسة الأدب العربى التجرد من دينه وكلام آخر يدور فى نفس المدار، فقلت إن هذا معناه شىء واحد هو أن الإسلام يناقض البحث العلمى، فكيف يجمع طه حسين بين الإيمان بالإسلام والإيمان بالمنهج العلمى، وهو يرى أنهما متناقضان؟ إن عليه أن يختار واحدا منهما ما دام الأمر كذلك، لأن من المستحيل، إلا على ذى عقل مضطرب أو مريض بانفصام فى شخصيته، أن يجمع بينهما. إن طه حسين يعلن أنه، فى شكه فى الشعر الجاهلى، إنما يجرى على منهج ديكارت، فكيف إذن تجاهل أحد القوانين الفطرية التى رأى ديكارت أنها تعلو فوق كل شك، ألا وهو "قانون عدم التناقض"، الذى بمقتضاه لا يمكن أن "يكون" الشىء و"لا يكون" فى نفس الوقت، بل إما أن "يكون" فقط أو "لا يكون"؟ إن تطبيق هذا القانون على النقطة التى نحن بصدها يستلزم أن يؤمن طه حسين إما بالدين أو بالمنهج العلمى ما داما فى رأيه متعارضين (انظر مادة " Descartes" من " A Dictionary of Philosophy, Pan Books, 1979" لمؤلفه Antony Flew).

أما قول طه حسين: "إن فى كل منا شخصيتين متمايزتين: إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، والأخرى شاعرة تلذّ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب فى غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وتساؤله: ما الذى يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الثانية مؤمنة دَيِّنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ ما لك لا تدع للعلم حركته وتغيره، وللدين ثباته واستقراره؟ " (انظر "تحت راية القرآن"/ ط3/ مطبعة الاستقامة/ القاهرة/ 1953م/ 349 - 350) فهو مغالطات بهلوانية: فأولا إذا كان يعتقد أن الدين يتميز بالثبات والاستقرار فكيف يطالب باطّراحه والتجرد منه أثناء البحث؟ لقد كان الأحرى به أن يعرف أن بحث الأدب العربى لا يدخل فى نطاق الدين، ومن ثم لم تكن به حاجة (لو كان فعلا يعنى كلامه هذا) إلى دعوته المريبة تلك. وثانيا أنا لا أفهم العلاقة بين الرضا والغضب واللذة والألم والفرح والحزن وبين الإيمان. إن الإيمان هو اقتناع بعقيدة وتشريع ما، والاقتناع من شأن العقل لا من شأن المشاعر، التى كما يصورها هو نفسه لا تستقر على حال، مع أنه قال إن الدين يتميز بالثبات والاستقرار. والإسلام هو دين العقل لا التسليم القلبى دونما فهم أو بحث أو اقتناع، على عكس الأديان الأخرى التى يقع المؤمن بها فريسة للصراع بين عقله وعلمه وبين إيمانه وتسليمه، هذا الصراع الذى يظل يؤرقه ولو فى أعماق نفسه إذا حاول أن يكبته هناك فى تلك الأعماق المظلمة بعيدا عن وعيه، أو يدفعه فى نهاية الأمر إلى الكفر.

من هنا يرى الرافعى أن مقال طه حسين الذى اقتطف هو منه ما سبق (وكان طه حسين قد نشره فى جريدة "السياسة" تسويغا لموقفه وآرائه التى بثها فى كتابه "فى الشعر الجاهلى") إنما هو تفسير وتعليل لكفره على أساس من العلم، إذ "يريد أن يثبت فيه أنه من الممكن أن يكون مِثْلُه كافرا أشد الكفر على اعتبار أنه عالم يبحث بعقله، ثم لا يمنع ذلك أن يكون مؤمنا أقوى الإيمان فى شعوره" (المرجع السابق/ 350 - 351). كما يرى أن تسمية الشعور شخصية، والعقل شخصية أخرى، معناه أن النسيان هو أيضا شخصية، والذِّكْر شخصية، والإنسان عدة شخصيات،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير