تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والرسالة المحمدية لدى جعيط هى رسالة محلية عربية لا شىء فيها من العالمية. طبعا، ومن الشواهد على صدق قوله عن ضيق أفق الدعوة الإسلامية أنها لاقت قبولا فى العالم أجمع ودخلها الناس من كل جنس ولون ودين ومذهب، بيضًا وحمرًا وصفرًا وسمرًا وسودًا، رجالا ونساء، أحرارا وعبيدا، من الشام ومصر وليبيا وتونس (بلد صاحبنا) والجزائر والمغرب وموريتانيا والسنغال وجامبيا، التى زرتها فى أواسط الثمانينات وكتبت عن رحلتى إليها كتابا لعل الله يهيئ الفرصة لنشره قريبا، وسائر أفريقيا، ومن السند وأفغانستان وبلاد تركب الأفيال وبلاد تركب الحمير من البشر ممن لا يفقهون ولا يتعظون ويظنون أنهم بتبعيتهم لأعداء أهليهم ودين أهليهم سوف ينالون احترامهم جاهلين أن التابع سيظل حقيرا منبوذا عند الأقدام مهما فعل وتقرب إلى متبوعيه، ومن بلاد الواق واق، التى ينتمى إليها صديقى وزميلى القديم محسن يوشيهارو أوجاساورا اليابانى المسلم الذى كنت أصدر أنا وهو فى الجامعة فى منتصف الستينات من القرن الماضى مجلة حائط كان يرسمها بريشته، وكتبت فيها مقالا ضاحكا عنه، والذى رأيته فى المنام الليلة رغم أنى لم أره منذ عقود، وكذلك من الصين وتايلاند والروسيا وبلاد المغول، ومن أستراليا وأوربا وأمريكا. لقد حصل للرجل لطف! وعلى رأى يحيى حقى: إنه مَرْيُوح! على كل حال لقد صدقت مقولة نجيب محفوظ للمرة الثانية: الأولى عندما فاز بجائزة نوبل رغم أن المساحة التى تدور فيها أحداث جميع رواياته تقريبا لا تزيد عن كيلومتر فى كيلومتر فى الحسينية والجمالية والدرّاسة. والثانية حين انتشر دين محمد صلى الله عليه وسلم فى العالم أجمع رغم أنه لم يكن فى ذهنه وقتها سوى بيئته القرشية، وفى أبعد تقدير: بيئته العربية، فإذا به يكتسح الدنيا اكتساحا. ولولا أنه مات منذ أربعة عشر قرنا من الزمان لأعطَوْه مثل نجيب محفوظ جائزة نوبل. ألا خيبة الله على كل عصفور صغير العقل!

أذكر أننى، عندما كنت فى بانجول عاصمة جامبيا فى غرب أفريقيا صيف عام 1986م وذهبت أصلى المغرب لأول مرة فى الجامع الكبير القريب من الفندق، قد راعنى ما رأيته من اجتماع المصلين للابتهال والصلاة على النبى الكريم من بعد الفراغ من صلاة المغرب إلى أن أذن المؤذن للعشاء الآخرة، فجاشت منى المشاعر، وطفقت أفكر فى ذلك السلطان العظيم لمحمد ولدينه على أرواح هؤلاء الناس وعقولهم وقلوبهم رغم بعد ديارهم عن بلاد الرسول ورغم اختلاف الجنس والقارة واللغة. وسجلت هذا فيما كتبته حين رجعت إلى الفندق فى تلك الليلة. والغريب أن د. جعيط يعود فى موضع آخر من الكتاب فيقر، ولكن بعد اللف والدوران، بأن رسالة محمد عالمية وأن القرآن يهتم بالإنسانية جمعاء لا العرب وحدهم، إلا أنه لا يستمر على هذا الإقرار رغم هذا، إذ يقول إن ثمة فرقا بين النظر والواقع، وإنه إذا كان القرآن يتجه فى خطابه إلى الناس كافة، فإن محمدا لم يكن يدعو أحدا فى الواقع الفعلى إلا العرب. أى أن رسالته فى الحقيقة رسالة وطنية رغم كل شىء (ص287 - 288). لكن المسلمين فيما بعد، حين رَأَوُا انتشار الإسلام فى البلاد المختلفة خارج الجزيرة، تبينوا أن النبى قد بُعِث للناس كافة كما أراد القرآن (ج1/ ص106). أى أن عالمية الإسلام هى من اختراع المسلمين.

وهنا أحب أن أناقش قضية أثارها الدكتور جعيط فى مقدمة الجزء الثانى من كتابه الذى نحن بصدده، وهى عقيدة المؤرخ الدينية، إذ ينصح المؤرخين المسلمين، متى بدأوا البحث فى أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أن يضعوا عقائدهم الدينية "بين قوسين" على حد تعبيره، بمعنى أن يَنْسَوْا إيمانهم بنبوته ويركزوا فقط على ما تقودهم إليه أبحاثهم. ذلك أن التاريخ "علم وضعى وأرضى يتناول فعاليات الأفراد والمجتمعات البشرية فى الماضى، ويخرج عن دائرة الإيمان والمعتقد"، و"العلم يحاول أن يفسر الأمور لا أن يحكم عليها"، وهو يتناول "الحقائق الدينية بالوصف والتحليل، بالبحث فى التأثرات والتطورات، ويضعها فى لحظتها التاريخية من دون الالتزام بالمعطَى الإيمانى" (ص5 - 6). ويُفْهَم من هذا بكل وضوح أن المؤمن بنبوة محمد وأنه رسول من عند الله أنزل عليه القرآن وكلفه بتبليغه للناس كافة يمكن أن يقول فى محمد كلاما آخر مختلفا عن هذا تماما ويظل مع ذلك مسلما يؤمن بنبوته بالمعنى الذى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير