تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

النبوية- خطاب مفتوح إلى د. محمود على مراد"، فثارت ثائرته وكتب فى مجلة "المصور" المصرية مقالا طويلا قال فيه إننى أكفّره وأستخدم معه أسلوب الإرهاب، فاضطررت أن أرد عليه مرة أخرى وتحديته أمام قراء "المصور" أن يأتينى بكلمة واحدة استخدمت فيها ألفاظا ترهيبية، فضلا عن أن أكون كفّرته فى كتابى الذى ناقشته فيه وأنا واضع فى يدى قفازا من حرير على رأى صديقنا المشترك الذى عرفنى به وحصلت بفضله على نسخة من الأطروحة المذكورة، المستشار رابح لطفى جمعه رحمه الله، وانتهت المسألة عند هذا الحد، ثم انتقل بعدها بقليل إلى جوار ربه.

وإضافة إلى ما سبق نقول إن كتابات د. جعيط تفتقر إلى الدقة والوضوح فى غير قليل من الأحيان. ومن ذلك قوله إن محمدا قد "نجح فى تكوين أمة وإدخال كل الحجاز فى دينه وضمن سلطته" (ص25)، تدليلا منه على الإنجاز السياسى الهائل الذى حققه الرسول الكريم، وهو ما يعنى أن أقصى ما بلغه الرسول فى نشاطاته السياسية هو إدخال الحجاز كله تحت سلطانه. أما باقى الجزيرة العربية فلم ينجح الرسول، بناء على هذا الكلام المهوَّش، فى إدخاله فى الدولة الجديدة التى أنشأها صلى الله عليه وسلم. أم لعل الدكتور جعيط يظن أن الحجاز هو كل بلاد العرب كما كان القرويون المصريين البسطاء فى طفولتى يظنون؟ إذ كانوا لا يعرفون من تلك البلاد إلا أنها "بلاد الحجاز"، على اعتبار أنه لم يكن يهمهم منها فى ذلك الزمن إلا الحج، والحجاج إنما يذهبون إلى الحجاز ولا يخرجون عنه إلى أن يعودوا من أداء الفريضة.

وبالمثل فإن معلوماته فى لُبّ تخصصه تبدو متخلفة كثيرا، فهو مثلا يؤكد أن كتاب ابن إسحاق هو أقدم كتاب وصلنا فى السيرة النبوية (ص40)، وذلك رغم وجود كتابين آخرين على الأقل يرجعان إلى مؤلفَيْن سابقَيْن عليه، وهما كتابا "مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعروة بن الزبير (ت94هـ) بتحقيق د. محمد مصطفى الأعظمى ونَشْر مكتب التربية العربى لدول الخليج بالرياض عام 1401هـ- 1881م، و"المغازى النبوية" لابن شهاب الزهرى (ت124هـ)، الذى حققه وأخرجه د. سهيل زكار عن دار الفكر بدمشق عام 1401هـ- 1881م أيضا. كما أن كاتبنا التونسى، أثناء حديثه عن الأمم القديمة التى ورد ذكرها وذكر أنبيائها فى القرآن، يتحذلق فيقول إن "ثمود" يصف الأمم القديمة الكافرة بأنهم كانوا "فرهين"، أى فرحين بما أنجزوه (ص171 - 172)، متصورا بعبقريته التى لم يؤتها الله أحدا آخر سواه أن ثمود نبى من أنبياء الله أُرْسِل للأمم القديمة جمعاء وكأنها "شروة طماطم" أخذها كلها كما هى بعُجَرها وبُجَرها.

ومن هذا الوادى تصوره أن القرآن عندما سمَّى عبد العُزَّى عمَّ الرسول فى سورة "المسد" باسم "أبى لهب" قد "منحه كنية رمزية تهديدية" (ص184)، وهذا نص كلامه حرفيا. والواقع أن عبد العزى كان يسمَّى هكذا منذ البداية لحمرة لونه وإشراق وجهه. صحيح أن القرآن قد أوعده بأنه سيَصْلَى نارا ذات لهب، لكن تهديد القرآن له شىء، وتكنيته بهذه الكنية شىء آخر، إذ كان يكنى بها، كما قلنا، منذ الجاهلية من قِبَل الناس جميعا لا من قِبَل أعدائه فحسب. وكان بإمكان د. جعيط، إذا أراد أن يخالف ما تقوله الروايات التى وردتنا بهذا الشأن عن علمائنا القدامى، أن ينص أولا على تلك الروايات ثم يتناولها بالبحث ويورد فى نهاية المطاف رأيه هو. وإذا كان الشىء بالشىء يُذْكَر فقد فسر د. محمود على مراد المارّ ذكره تكنية عم الرسول بـ"أبى لهب" بأنه هو الذى حفر الأخدود وملأه نارا وأحرق فيه المسلمين، فلهذا سماه القرآن: "أبا لهب". وهكذا تصاغ السيرة على أيدى علماء آخر زمن!

كذلك نجد هشام جعيط يزعم أن القرآن المكى يخلو من عداء أهل الكتاب (ص194). يقول ذلك عقب إيراده ترتيب السور القرآنية زمنيا عن نولدكه الألمانى وبلاشير الفرنسى وعقب طنطنته بعمل هذين المستشرقين وبما يقدمه لدارس القرآن من فهم أعمق لتاريخ الدعوة وسيرة الرسول. وهو يريد من وراء كلامه القول بأن القرآن إنما يعكس رأى الرسول فى الناس من حوله بناء على مواقفهم منه، وبما أن مكة لم يكن فيها نصارى أو يهود يعادونه فإن القرآن يخلو من الآيات التى تعيبهم وتعاديهم. والواقع أن هذا جهل مبين، إذ فى القرآن المكى حملة على تأليه النصارى للمسيح عليه السلام (مريم/ 34 - 39، والزخرف/ 57 - 66)، وحملة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير