تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأول ملاحظة نخرج بها من هذا النص أن تساؤل جعيط عن حقيقة الدار التى بالصفا لا موضع له لأن الرواية التالية قد ذكرت أنها هى فعلا دار الأرقم بن أبى الأرقم. والواقع أن لهذه الملاحظة دلالتها الخطيرة، إذ تكشف مرة أخرى أن جعيط لا يحسن القراءة أو أنه يتخطفها تخطفا كما لاحظتُ من قبل على د. محمد مندور فى الفصل الذى عقدته للشيخ حسين المرصفى من كتابى عن "مناهج النقد العربى الحديث". والثانية، وهى الأهم، أن البلاذرى لا يرفض الرواية التى تعزو إسلام عمر إلى قراءته آيات من القرآن الكريم، بل يؤمن بصحتها تمام الإيمان حسبما سنرى بعد قليل. وإنى لأتحدى جعيط وزعيط ومعيط ونطاط الحيط جميعا أن يدلونى على جملة أو كلمة أو همسة أو حتى نحمة من البلاذرى تومئ مجرد إيماء إلى أنه يرفض تلك الرواية. وكيف يرفضها، وقد أوردها بدل المرة مرتين، ثم عقب فى نهاية كلامه على كل ما قاله عن عمر بما فيه هاتان الروايتان بأنه أصحّ ما سمعه فى هذا الموضوع؟ على أن المسرحية لما تنته فصولا، فإن الإسناد الذى ساقه جعيط هو إسناد الرواية التى ينكرها جلالته ويومئ إلى أن الواقدى ينكرها هو أيضا. أما الخبر الذى أورده هو باعتباره الرواية التى يقبلها البلاذرى ويرفض ما عداها، وهو: "أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة"، فهذا إسناده: "حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة: ثنا عبد الله بن إدريس الأودي: ثنا حصين بن هلال بن إساف". ثم إن هذا الخبر لا يتعارض بحال والروايتان الأخريان اللتان ساقهما البلاذرى، بل يتكاملان: الخبر بإيجازه، والروايتان التاليتان له بما فيهما من تفصيلات وتوضيحات. وهكذا نلمس مرة أخرى بأيدينا لمسا أن د. جعيط لا يحسن القراءة أو على الأقل: لا يحسن الفهم. وهذا إن لم يكن يتعمد التدليس تعمدا، وهو ما لا أستبعده أبدا.

والعجيب أن يتهم جعيط ابن إسحاق ويزعم أنه، لتشيعه وخضوعه لضغط العباسيين الذين كتب السيرة النبوية فى عهدهم، قد أسند لبنى هاشم، وخصوصا العباس، دورا فىحماية النبى أكبر كثيرا من الواقع تقربا إلى بنى العباس (ص252). وهذا الكلام قد سبق أن قاله د. محمد على مراد، الذى رددتُ عليه وفنّدتُ كل ما قاله همسة همسة، ونحمة نحمة، فكتب مقالا فى مجلة"المصور" القاهرية يتهم فيه العبد الفقير إلى ربه تعالى بأنه يرهبه ويكفره، إذ اتهم د. مراد ابن إسحاق نفس الاتهامات وأدار عليها رسالته من أولها إلى آخرها. ولست أدرى أكان ترديد جعيط لكلام مراد مجرد مصادفة أم اطلع على ما كتب الرجل فأخذه دون أن يشير إليه. ذلك أن تلك الأطروحة لا تظهر بين مراجع جعيط. ونترك هذه النقطة للباحثين يحققونها على مهل.

وسواء كان جعيط قد أخذ من مراد أو لم يأخذ فالكلام الذى قاله هو، فى الحق، تنطعٌ ماسخٌ. لماذا؟ لقد سبق أن أثبتُّ فى كتابى: "إبطال القنبلة النووية الملقة على السيرة النبوية"، الذى فندتُ فيه أطروحة الدكتور مراد تفنيدا لم يترك فيها موضعا لثَقْب إبرة دون أن ينسفه، أن ابن إسحاق عالم فاضل لا ينزل إلى هذا المستوى الواطى الذى يحاول جعيطنا أن ينزله إليه، متجاهلا أن هناك علماء كراما لا يبيعون ضمائرهم ولا يرضَوْن أن يعيشوا أذنابا لبعض الجهات كبعض الناس وينعقوا بما ينعق هؤلاء به. وبرهنت على ذلك بما قاله القدماء الأثبات فى ابن إسحاق وعلمه وفضله، وكذلك المستشرقون. كما لفتُّ الانتباه إلى أن العباسيين شىء، والشيعة شىء آخر، وأنه كان بين الفريقين عداوة ملتهبة طوال التاريخ، فلا معنى إذن للقول بأن تشيع ابن إسحاق المزعوم قد جعله يزيف التاريخ من أجل إرضاء العباسيين.

ثم لا ننس أن ابن إسحاق لم يسند حماية النبى إلى العباس بل إلى أبى طالب. كما لا ينبغى أن يفوتنا ما كتبه فى سيرته من أن أبا طالب قد مات على دين قومه. أفلو كان الرجل يكتب التاريخ كى يرضى بنى هاشم أكان يميت شيخهم فى عهد النبى كافرا بالدين الذى أتى به ابن أخيه؟ ومِثْلَ ذلك قٌلْ فيما كتبه عن أبى لهب، إذ كان يستطيع، ما دامت الأمور سائبة إلى هذا الحد وكان يمالئ الهاشميين كما يزعم جعيط، أن يُدْخِله الإسلام. وماذا فى ذلك؟ وما الذى كان سيتكلفه فى هذا أكثر من جرة قلم لا راحت ولا جاءت؟ ومن يا ترى يضرّه أن يقال إن أبا لهب قد أسلم وسوف يدخل الجنة؟ أما العباس الذى ينتمى إليه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير