تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبالمناسبة كان علىّ منذ يومين أن أعمل أشعة بجهاز الرنين المغناطيسى على رقبتى، التى تبين بحمد الله أنه ليس فيها إلا بعض الخشونة، وهو أمر عادى تماما فى مثل سنى. وفى البداية لم أكن مرتاحا إلى الدخول فى الجهاز الذى أشبّهه ضاحكا بكبسولة الفضاء مما أضحك الطبيبة صاحبة اقتراح الأشعة. وكدت أقوم من رقدتى حين وضعت الممرضة شيئا يشبه نظارة بلا زجاج على وجهى وأذنى لتخفيف وقع صوت الجهاز العنيف على سمعى لولا أن قلت لنفسى: عيب يا أبا خليل، فقد خرجَتْ قبلك مباشرة سيدة بسيطة دون أن تحدث ما سوف تحدثه أنت من ضجة وإرباك. فهل تعجز، وأنت الرجل، وإن لم تكن لك شوارب يقف عليها الصقر ولا حتى أبو فصادة، أن تتحمل الشعور بأنك محصور داخل هذا الأنبوب لمدة عشرين دقيقة؟ ثم توكلت على الله وتركت الممرضة تدفعنى إلى داخل الأنبوب بعد أن أغمضت عينى وشرعت أركز تفكيرى كله فى ربى سبحانه وتعالى، وظللت أجرى حوارا طوال الوقت من جانبى أقرأ فيه الآيات القرآنية التى تتحدث عن يونس وهو فى بطن الحوت فأجد لذة غريبة. ولم أعد أشعر بأنى محصور ولا مقيد، بل كنت أتخيل أن سقف الأنبوب هو نفسه سقف الغرفة. كما كان الهواء بالداخل فى غاية الإنعاش، وأحسست أننى قريب من الله تمام القرب، ولم أكف عن الابتهال له من أجل أولادى. ودعوتُه، إذا ما قُدِّر لى أن تكون نهاية عمرى فى تلك الكبسولة، أن يسامحنى فلا يعذبنى على ذنب اجترحته. وكنت أسأل نفسى وأنا ممدد هناك: ماذا لو حدث شىء أدى إلى موتك وأنت بداخل هذا الأنبوب؟ فأجبت قائلا: وماذا فى ذلك؟ وهل أنا استثناء من البشر؟ ألم يمت الرسل أنفسهم، فما بالى أنا؟ ثم إن فى العالم مليارات من البشر، ولن يضيرهم أن ينقصوا واحدا لا يقدم ولا يؤخر. فسكنتْ نفسى عندئذ أيما سكينة. وكانت تجربة روحية عميقة خرجت منها فى منتهى السعادة. وحين غادرت المستشفى إلى الشارع كانت الدنيا أجمل وأبهج.

هذا، ولا يصح أن يفوتنى التنويه بأن الدكتور مصطفى، شفاه الله، قد نشأ فى طنطا قريبا من مسجد السيد البدوى، وهو المسجد الذى كنت أتردد عليه بعد انتهاء اليوم الدراسى فى المرحلة الإعدادية حيث كنت أستذكر دروسى وأصلى الأوقات كلها مع المصلين، وحيث كنت ألعب الكرة أحيانا حوله ليلا مع بعض أبناء قريتى الذين يتلقون العلم مثلى فى طنطا. بل لقد سكنت ذات مرة فى غرفة بإحدى الحارات المطلة على المسجد الأحمدى وأنا فى السنة الأولى الثانوية. أى أننا نشأنا فى نفس الجو تقريبا، وإن كان هو أكبر منى بسبعة وعشرين عاما. وهذا مما يشعرنى الآن بأن كلينا قريب من الآخر، وهو ما أضفى على هذه الكلمة شيئا من الدفء والحميمية، إلى جانب ما أعدانى به الأستاذ فيصل أكرم الكاتب بجريدة "الجزيرة" السعودية والمشرف على الملف الحالى، فقد اتصل بى برسالة مشباكية على غير معرفة بيننا وطلب منى مشكورا أن أساهم بكلمة فى الكتابة عن الدكتور مصطفى محمود لافتا نظرى إلى أن من حق الرجل أن يشعر بنا حوله فى ظروفه الحالية، فخلق عندى بهذا الطلب إحساسا بالقرب من العالم الجليل قبل أن أتذكر أنه قد نشأ كما نشأت فى طنطا، تلك المدينة التى تلقيت فيها تعليمى فى أثناء المرحلتين الإعدادية والثانوية والتى لى فيها كثير من الذكريات والأفراح والأشجان، وكنت أحلم بها فى أكسفورد وأنا متغرب أدرس للحصول على درجة الدكتورية فى النقد الأدبى فى النصف الثانى من سبعينات القرن الماضى.

ولا يفوتنى أن أشرح للقارئ أنه لم تكن لى صلة مباشرة بالدكتور مصطفى فى أى وقت، ولم يحدث فوق ذلك أن رأيته مواجهة، بل تقتصر معرفتى به عن طريق كتبه ومقالاته وبرنامجه عن "العلم والإيمان". ومع هذا فقد أرسلت له ذات يوم من عام 1984م أستسمحه فى نقل ما كان قد كتبه فى بعض مؤلفاته عن النتائج التى توصل إليها رشاد خليفة بخصوص الرقم 19 فى القرآن الكريم ودلالته على إعجازه ومصدره الإلهى. وكنت أيامها حديث عهد بالعودة من بريطانيا، ولا أزال أتذكر التحقيق الذى كنت قرأته قبل سفرى إليها فى أواسط السبعينات من القرن المنصرم عن ذلك الموضوع. فعندما أردت آنئذ أن أصدر كتابى: "المستشرقون والقرآن" خطر لى أن ألحق به الفصل الذى كتبه الدكتور مصطفى فى تلك القضية، فكتبت له رسالة بذلك وبعثت بها طالبا من طلابى الذين يعرفون مسجده ويترددون عليه للصلاة فيه،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير