وكان على صديقنا الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر أن يفعل ذلك إذا أراد أن يلغي قرار المجمع القديم، ويطلب من أعضاء المجمع ومن غيرهم من مصر ومن العالم الإسلامي أن يقدموا بحوثاً في الموضوع، وأن تتاح لهم فرصة عرضها وتقديمها، وأن تناقش المناقشة الجديرة بأمر خطير مثل (فوائد البنوك) وبعد ذلك يقال: إن المجمع رأى أن فتواه القديمة كانت خطأ، وأنه الآن يرجع عنها بالإجماع أو بالأغلبية ولكن للأسف لم يفعل هذا، بل لم يعرض الأمر على اللجنة الفقهية، ولم يكن النصاب مكتملاً كما ذكر ذلك العارفون ونشر في الصحف.
على أن القرار الذي صدر من مجمع البحوث الإسلامية سنة 1965م قد أقرته المجامع الفقهية المتخصصة مثل المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، والمجمع الفقهي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، والمجمع الفقهي الإسلامي بالهند، وغيرها من المجامع الإسلامية، كما أقرت ذلك المؤتمرات العالمية التي عقدت في عدد من الأقطار للفقه الإسلامي والاقتصاد الإسلامي وللمصارف الإسلامية.
عيب مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر
إن عيب (مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر) أنه ليس مجمعاً فقهياً خالصاً، هو (مجمع بحوث) ففيه أساتذة في اللغة والأدب، وفي التاريخ، وفي العقيدة والفلسفة وفي التفسير، وفي الحديث والقانون وفي الطب والهندسة، وفيه عدد قليل من المشتغلين بالفقه، أظنهم أربعة، وقد وافق منهم اثنان، وخالف اثنان، فكيف يوافق هذا المجامع الفقهية التي تضم كبار المتخصصين، وتستعين بآخرين من علماء الفقه المرموقين من خارج المجمع؟
وقد قامت فكرة الشيخ طنطاوي شيخ الأزهر في تحليل فوائد البنوك على أساس أن الذي يودع ماله في البنك قد وكّل البنك وكالة عامة ليستثمر ماله في الحلال ويقتسم الربح معه.
وهذا العقد متوهم وغير موجود، والمكاتبات بين البنك وعملائه ليس فيها إلا دائن ومدين، وهو قد قيّد الاستثمار بأن يكون في الحلال لا في الربا وللوكالة شروط، ومقومات لا تتوافر في هذا العقد، ومناقشة هذا تطول .. والبنوك التجارية ليس لها حق الاستثمار إلا في حدود ضيقة جداً، وعملها الأساسي هو الاقتراض والإقراض، فالبنك هو المرابي الأكبر، وهذا مما لا يخفى على ذي لب.
وقد كنت كتبت منذ أكثر من عشر سنوات رداً على د. سيد طنطاوي، حينما كان في منصب مفتي مصر كتاباً بعنوان (فوائد البنوك هي الربا الحرام) وهذا العنوان أخذته نصاً من قرار مجمع البحوث بالأزهر السابق، وفنّدت فيه كل ما يقوله مبررو التعامل بالفائدة، وهي مبررات لا تقوم على ساق، ولا تسعى على قدم.
وتقتضي قول هؤلاء بأن فوائد البنوك ليست ربا، إنه لا يوجد في العالم ربا الآن لا في الغرب، ولا في الشرق، لأن بنوكنا هي نسخة أو صورة من البنوك في البلاد الرأسمالية الغربية، فإذا كان ما في بنوكنا لا يعتبر ربا، فليس في العالم كله ربا. وهذا لا يوافق عليه عقل، لا من أهل الدين ولا من أهل الدنيا، لا من أهل الشرع، ولا من أهل الاقتصاد.
وقد أثيرت في قطر منذ مدة ضجة مفتعلة لإحياء هذا الأمر والنفخ فيه بعد ما أغلق ملفه، رددت عليها في الطبعة الأخيرة من كتابي ذاك، وكان مما قلت فيها:
جرأة على الثوابت
إن من أعظم الفتن الفكرية، ومن أخبث المؤامرات على العقل الإسلامي المعاصر تلك المحاولات الجريئة لتحويل المحكمات إلى متشابهات، والقطعيات إلى محتملات، قابلة للقيل والقال، والنقاش والجدال، مع أن هذه المحكمات والقطعيات هي التي تمثل (ثوابت الأمة) التي انعقد عليها الإجماع المستيقن، واستقر عليها الفقه والعمل، وتوارثتها الأجيال جيلاً إثر جيل.
وكل دارس للشريعة الإسلامية وفقهها، يعلم علم اليقين أن هناك دائرتين متمايزتين، لكل منهما خصائصها وأحكامها.
الأولى: دائرة مفتوحة وقابلة لتعدد الأفهام، وتجدد الاجتهادات، ومن شأنها أن تختلف فيها الأقوال، وتتنوع المذاهب، وهذه الدائرة تشمل معظم نصوص الشريعة وأحكامها.
فهي دائرة مرنة منفتحة، وهذا من رحمة الله بعباده، لتتسع شريعته للعقول المتباينة، والمشارب المختلفة، والوجهات المتعددة، ولا غرو أن وسعت الظاهري والأثري وصاحب الرأي.
¥