[فيض المشاعر في أغلى المشاعر]
ـ[حفيدة البخاري]ــــــــ[27 Nov 2010, 12:26 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
اعتدت الحج مع حملات تنقلنا بحافلاتها بين المشاعر فيغب عني بعض معاني الحج، لكن التنويع مطلوب ليحج القلب مع البدن، ويحلق في سماء الآخرة، بعيدا عن زخم الدنيا ونعيمها الزائل، فلما نزلنا مزدلفة ودعنا أصحابنا فالملتقى بمنى بإذن الله، وافترقنا عنهم نريد أن نتذوق طعما آخرا للحج لم نتذوقه من قبل، ولن نتذوقه مادمنا نتنقل في الحافلات، ونغلق على أنفسنا المخيمات، من هنا كانت البداية ...
المبيت بمزدلفة وقبله الوقوف بعرفة الجميع على صعيد واحد ذابت أحسابهم وأنسابهم ومراكزهم، لافرق في الظاهر بينهم، عربهم وعجمهم، عزيزهم وذليلهم، غنيهم وفقيرهم
هذا مايغرسه الحج لا فرق في الظاهر أبدا، إنما التفاضل الحقيقي مكمنه تلك المضغة التي يطلع عليها من يعلم السر وأخفى ..
حط وفود الكريم رحالهم بمزدلفة ليبيتوا على التراب .. يا الله أين الأسّرة العالية، والآرائك الناعمة، والنمارق المصفوفة، والفرش المنقوشة، استوحيت رسالة ربانية: أي عبدي اليوم نمت فوق التراب وسيأتي اليوم الذي ستنام فيه تحت التراب، فاستعد لذاك اليوم مادمت في زمن الإمهال!!
يكفي ليلة واحدة فقط لتُفهمك الدرس! فإذا أسفرت الشمس انطلق إلى منى ومابين الصلاة والإسفار دعاء وذكر وابتهال ..
سار ركب الهدى بخشوع وسكينة وفي أثناء الطريق اضطر كثير منهم للتخفف من متاعهم الذي أثقل سيرهم حينها أيقنت إن أردت المسارعة في الخير والمسابقة عليه لابد أن أتخفف من الذنوب ومن متع الدنيا الزائلة، لأسير بخفة وسرعة إلى جنة عرضها السموات والأرض {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمرآن: 133)
ارتفعت الشمس في كبد السماء فأخرج كل من يملك مظلة " شمسية " مظلته لتقيه حر الشمس، انتابتني رعشة وأنا أنظر لهذا الموقف .. إيه يانفسي الآن بوسعك أن تخرجي مظلتك متى أردت، وباستطاعتك تظلي من تشائي بمظلتك، وتعيريها من تريدي لكن سيأتي اليوم الذي لن يظل فيه إلا من اختارهم الله لظله منهم: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال:إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.
وذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم:" اقرءوا القرآن فإنه شافع لأصحابه يوم القيامة، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أهلهما".
وأنا في خضم هذا الشعور المهيب تأخرت عن أهلي قليلا وإذ بكل واحد منهم يناديني، حينها وقف قول الله أمام ناظري {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)} (عبس)
اليوم أهلي يبحثون عني ويتفقدوني، وسيأتي اليوم الذي يفرون مني وأفر منهم خشية أن يطالبوني بحقوقهم، أو أطالبهم بحقي .. يا الله الموقف عظيم لكل شأنه الذي أشغله .. رحماك ربنا رحماك ..
أتعبنا المسير فأردت أن أقف قليلا لأستريح ثم أكمل المشوار وجدت عن بعد مكانا مناسبا للجلوس ذهبت له، وإذ بإحدى الأخوات تقول: محجوز.
تنحيت قليلا أبحث عن غيره، وجد والدي – حفظه الله - مكانا آخرا مناسبا للجلوس استأذن الرجل الذي يقف فيه عله يسمح لنا بالجلوس بجواره لكنه رفض وقال: محجوز ..
تذكرت ذاك اليوم الذي يقول كل شخص: نفسي نفسي .. إلا شخصا واحدا فقط، يقول: أمتي أمتي .. روحي له الفداء صلى الله عليه وسلم.
فماذا قدمت لنصرته ونشر سنته والدعوة لدينه والعمل بمنهجه؟!!
هذه وقفات باح بها الخاطر راجية المولى الكبير أن يستفيد منها كل حاج، وهو يودع أهله بإرادته مستشعرا اليوم الذي سيودعوه بدون إرادته، وحين يتجرد من مخيطه امتثالا لأمر ربه يتذكر ذلك اليوم الذي سيُجرد فيه بلا حول منه ولا قوة ..
كل هذه المعاني وغيرها تجعلنا ندرك لم بدأ ربنا سورة الحج بذكر يوم القيامة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} ولم يبدأه بالوقوف بعرفة ولا المبيت بمزدلفة أو منى، أو رمي الجمار ..
الحج مدرسة لمن وفقه الله لفهم مناهجها واستخلاص دروسها وعبرها ليتخرج منها بشهادة التقوى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)} (البقرة)
أكرمني الله وإياكم بتقواه، وختم لي ولكم بالصالحات، وأمننا يوم الفزع الأكبر، وأظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وجعل قبورنا روضة من رياض الجنان، وأعتقنا ووالدينا ومعلمينا وأحبابنا من النيران، وأكرمنا بشفاعة سيد ولد عدنان ..
إنه ولي ذلك والقادر عليه .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ..
¥