ويظهر من هذه الأمثلة أن ما رسمت فيه الهمزة الثانية ياء أو واوا أقل مما جاء مرسوما بألف واحدة، ولو تأملنا عددا من الآيات التي جاءت في كل منها همزة الاستفهام مرتين، مرة مع (إذا) وأخرى مع (إنا) والهمزة مكسورة فيهما، حيث وردة هذه الصيغة في سورة (الرعد: 5، والمؤمنون: 82، والنمل: 67، والصافات: 16و53، والواقعة: 47) لوجدنا أن الهمزة الثانية في (أءذا) رسمت ياء في موضع واحد، في (الواقعة: 47)، وهو قوله سبحانه: (وكانوا يقولون إئذا متنا وكنا ترابا وعظما أءنا لمبعوثون)، وفي (أءنا) رسمت بالياء في موضعين، الأول في (النمل: 67) (وقال الذين كفروا إءذا كنا تربا وءاباؤنا أئنا لمخرجون)، والثاني في (الصافات: 16) (أءذا متنا وكنا ترابا وعظما أئنا لمبعوثون).
وقد علل الداني لما رسم بالواو أو بالياء من الهمزة التالية لهمزة الاستفهام بأنه رسم كذلك على مراد التليين، وما جاء بألف واحدة على مراد التحقيق، وحذفوا إحدى الألفين، كراهة اجتماع صورتين متفقتين في الخط، يقول في (المحكم) عن هذه الظاهرة: " وجه ذلك إرادتهم التعريف بالوجهين من التحقيق والتسهيل في تلك الهمزة، فالموضع الذي جاءت الياء والواو فيه مرسومتين دليل على التسهيل، والموضع الذي جاءتا فيه غير مرسومتين دليل على التحقيق، وذلك من حيث كرهوا أن يجمعوا بين صورتين متفقتين. فلذلك حذفوا إحدى الصورتين واكتفوا بالواحدة منهما إيجازا واختصارا ".
وبناء على ما تقرر سابقا وذكرناه في أكثر من موضع من أن الهمزة إذا توسطت خففت في قراءة ولغة أهل الحجاز بصورة عامة، فإن الهمزة الثانية في الأمثلة السابقة سواء رسمت واوا أو ياء أم لم ترسم تخفف في ذلك على نحو ما تخفف الهمزة المتوسطة، وقد روي تخفيف الهمزة الثانية عن قالون وأبي عمرو، وهشام عن الحلواني، وروي تخفيفها أيضا عن أبي جعفر سواء كانت مفتوحة أم مضمومة أم مكسورة، وسواء كان تخفيفها بإدخال ألف بين همزة الاستفهام وبين ما تخفف إليه الثانية أم بدون ذلك [انظر الدمياطي].
أما أنها رسمت في بعض الأمثلة بالواو أو بالياء حسب حركتها دون بعض فإن ما رسمت فيه كذلك أثبت الكتاب صورة النطق الفعلي، وما لم ترسم فيه خففت أيضا بنفس الطريقة لكن صورة الكلمة قبل دخول همزة الاستفهام كان قد شاع استعمالها على شكل معين، فلما دخلت همزة الاستفهام وتعرضت الهمزة الأصلية في الكلمة للتوسط والتخفيف لم يثبتوا ما طرأ على الكلمة من تغير في النطق تمسكا بالصورة المعروفة الشائعة للكلمة، ومن ثم فإن ما لم ترسم فيه الهمزة ياء أو واوا لا يدل على تحقيق الهمزة، إذ من غير المعقول أن يخفف القارئ في آية واحدة كلمة دون أخرى في سياق واحد مثل ما ورد من الآيات التي تحتوي صيغة (أءذا ... أءنا ... ) السابقة، وإنما لم ترسم الهمزة في هذه الكلمات على حسب التخفيف للعلة التي ذكرنا." انتهى كلام الدكتور غانم الحمد.
وأختم كلامي هنا بما أورده الدكتور غانم الحمد في كتابه (علم الكتابة العربية) [ص 15 - 151]- وأنا أوافقه -:
" أما إذا دخلت همزة الاستفهام على كلمة أولها همزة، فإن كانت همزة قطع فإن المختار كتابتهما بألفين، سواء كانت حركة الهمزة الثانية فتحة أم ضمة أم كسرة، وذلك نحو (أأنت، وأأكرمك، أإذا). وكان بعض الكتاب الأوائل يرسمون المضمومة بعد همزة الاستفهام واوا، والمكسورة ياء، والرسم الأول أوضح وأشهر. "
وسبب موافقتي للدكتور غانم، أن كتابة الهمزة بصورة غير الألف غير لائق بنا ونحن أهل التحقيق نحقق الهمزة أينما حلت، بل قد صار تحقيق الهمزة من سمات العربية الفصحى في زماننا. ولذلك أهيب بمجامعنا وهيئاتنا اللغوية أن ينظروا في أمر مشكلة الهمزة، وأتمنى لو أقروا كتابتها ألفا على كل حال، لأن ذلك هو الأصل.
والعرب قبل الإسلام وإلى صدر الإسلام لم يكونوا يرسمون الهمزة بغير صورة الألف، إلا بعد رسم المصاحف (التي رسمت الهمزة فيها على صورة ما تؤول إليه عند التخفيف، وليس على أنها همزة محققه، لأن من ولوا نسخ المصاحف كانوا يخففون الهمزة، وهم أهل الحجاز).
ولما انتشرت المصاحف لم يشاء الناس مخالفة رسمها، سواء منهم من يحقق الهمزة أو من يسهلها، إلى أن وضع لها علامة تميزها في الرسم.
هذا؛ والحديث لم يأخذ حقه من النقاش والحوار، ذلك أن موضوع الهمزة من المواضيع الشائكة والمهمة. ولعل حوار لنا ثانيا ومواضيع بخصوص ذلك - إن شاء الله -.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته