تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لتستقبل أخري .. وإلي يوم يرحلون.

ليست القصة ضياعا في نشوة انتصارات تذهب بعقل، وربما لا يصح أن يستهين أحد بقوة إسرائيل العسكرية بالذات، فلها رابع أقوي جيش في العالم، ولديها تكنولوجيا السلاح المتاحة لأمريكا بالضبط، وعندها ترسانة قنابل ذرية فوق الثلاثمائة رأس، كل ذلك معروف ومسلم به، لكن القوة الفائضة تبدو وكأنها ضلت سبيلها، أو قل: انها لا تختار سبيلها، فقد تحولت إلي ما يشبه القاعدة الأمامية المتقدمة لمشروع الهيمنة الأمريكية علي العالم، وربطت مصيرها بمصائر المشروع الأمريكي الخائر باطراد، وضعف هامش الاختيار الذاتي، وتداعت فكرة المشروع الصهيوني في أصل تكوينه، وإلي حد تبدو معه قوة إسرائيل العسكرية متضخمة، ولكنها في خدمة مشروع ضامر ومتآكل باطراد.

ومع مناقشات تقرير فينوغراد في الصحافة الإسرائيلية، يلفت النظر أن قصة الهروب إلي قبرص بدت طافية علي السطح، صحيفة إسرائيلية نشرت مقالا عن الاستيطان الجديد، ليس في الضفة ولا في القدس، لكن الموضوع: عن تدافع الإسرائيليين لشراء مساكن في منطقة شمال قبرص تحت السيطرة التركية، أحدهم اشتري منزلا بأقل من 200 ألف دولار عن مثيله في إسرائيل، وحين سئل: لماذا؟، قال ببساطة: إنها نصف ساعة سفر وأكون هناك، فلم يعد أحد يضمن أمنا في إسرائيل، والخوف ـ هنا ـ من صواريخ حزب الله، أو من صواريخ إيران المهددة للعمق الإسرائيلي، فقد عادت قضية الأمن هاجسا ملحا ضاغطا ـ بأكثر مما سبق ـ علي العقل الإسرائيلي، وقد لا يجوز لأحد أن يتنكر لحيوية العقل الإسرائيلي، ولا لحرصه الدائم علي النظر وإعادة التقييم، ولا للخطط والبدائل التي تعد بعناية، لكن الطرق لا تبدو سالكة ممهدة أمامها، والخطط لا تنتهي إلي غاياتها بالضبط، فقد انتهت مواسم موشيه دايان، ومباهاته بذكاء الإسرائيليين مقابل جهل العرب، وتحديه أن يعلن خطة الحرب قبل الشروع فيها، وثقته التلقائية في النصر لأن العرب لا يقرؤون، وإن قرؤوا لا يفهمون، وإن فهموا لا يفعلون (!).

لم يعد شيء من ذلك جائزا ولا واردا، ليس لأن النظم العربية صارت أفضل، بل لأن النظم سقطت، وخرجت من اللعبة إلي إشعار آخر، فقد كان بوسع إسرائيل أن تفوز علي النظم بطريقة الضربة الخاطفة، ولم يعد ذلك متاحا لأن النظم لا تريد أن تحارب، وتتسابق لإرضاء إسرائيل وتوقي أذاها، وهكذا لا تتاح فرصة النصر العسكري السهل، وتترك إسرائيل لقدر الهزيمة بعد الهزيمة، فليس بوسع إسرائيل ـ بإطلاق ـ أن تهزم حركة مقاومة في حرب طويلة، ولا بوسع أمريكا ذاتها، والشواهد مرئية في العراق ولبنان وفلسطين، وهو ما يعني أن مواسم انتصارات إسرائيل صارت من الماضي، ثم استدار الزمن، ولم يتبق لإسرائيل في الكأس غير الجرعات المرة، كانت تتقدم في الماضي من نصر إلي نصر، بينما تنتهي الآن إلي هزيمة مكتوبة بسن السلاح وثقافة الاستشهاد وتكنولوجيا الردع الصاروخي، وبدا أن القصة عادت إلي حيث بدأت مع تغير الظروف، وقد كان شارون ـ الذاهب في الغيبوبة ـ صادقا تماما، وهو يري ـ مع انتفاضة الفلسطينيين ـ أن حرب 1948 جري استئنافها بعد نصف قرن، وأن الحكم الذي صدر علي العرب وقتها بالهزيمة والنكبة يجري استئنافه الآن، ولأسباب بعضها يتصل بميادين السلاح، وغالبها متصل بحروب الجامعات وغرف النوم، والتي توقع آرنون سافير ـ عالم الديموغرافيا الإسرائيلي ـ أن تكون فيها النهاية والكلمة الفصل.

ولعل ما يلفت النظر هو تبادل الأدوار الذي جري، فقد كان العرب ـ وقت وبعد النكبة الأولي ـ غارقون في الخيال، يتحدثون عن إسرائيل المزعومة، وعن حلم إلقائها في البحر، استعاضوا ـ بطريق الاحتيال النفسي ـ عن بؤس الواقع بفسحة الخيال، ومع مرور ستين سنة علي النكبة، يبدو الوضع مقلوبا الآن، ويبدو لجوء الإسرائيليين لفسحة الخيال أكثر ظهورا، فالإسرائيليون يتحدثون اليوم ـبل ويشترطون- عن الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وفي ذات اللحظة التي بدت فيها استحالة تعريف إسرائيل كذلك، فقد انتهي الحلم الصهيوني ببناء دولة نقية وخالصة لليهود إلي الحائط المسدود، وبحروب غرف النوم أولا، وتغير خرائط الديموغرافيا، فقد انتهت حرب 1967 ـ بتداعياتها ـ إلي مأزق غير مسبوق لإسرائيل، نعم وقعت فلسطين التاريخية ـ ما عدا وضع غزة الخاص الآن ـ تحت الاحتلال الإسرائيلي، لكن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير