وقوله في الرواية الثانية (أخبرنا عباد بن عباد عن أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله عنهما) قد يتوهم من لا يعاني هذا الفن أن هذا تطويل لا حاجة إليه , وأنه خلاف عادته وعادة الحفاظ ; فإن عادتهم في مثل هذا أن يقولوا عن حماد وعباد عن أبي جمرة عن ابن عباس. وهذا التوهم يدل على شدة غباوة صاحبه. وعدم مؤانسته بشيء من هذا الفن ; فإن ذلك إنما يفعلونه فيما استوى فيه لفظ الرواة , وهنا اختلف لفظهم ; ففي رواية حماد عن أبي جمرة: سمعت ابن عباس. وفي رواية عباد عن أبي جمرة: عن ابن عباس. وهذا التنبيه الذي ذكرته ينبغي أن يتفطن لمثله , وقد نبهت على مثله بأبسط من هذه العبارة في الحديث الأول من كتاب الإيمان , ونبهت عليه أيضا في الفصول , وسأنبه على مواضع منه أيضا مفرقة في مواضع من الكتاب إن شاء الله تعالى. والمقصود أن تعرف هذه الدقيقة ويتيقظ الطالب لما جاء منها فيعرفه وإن لم أنص عليه اتكالا على فهمه بما تكرر التنبيه به , وليستدل أيضا بذلك على عظم إتقان مسلم رحمه الله وجلالته وورعه ودقة نظره وحذقه. والله أعلم.
وأما (أبو جمرة) وهو بالجيم والراء واسمه نصر ابن عمران بن عصام وقيل: ابن عاصم الضبعي بضم الضاد المعجمة البصري. قال صاحب المطالع: ليس في الصحيحين والموطأ أبو جمرة , ولا جمرة بالجيم إلا هو. قلت: وقد ذكر الحاكم أبو أحمد الحافظ الكبير شيخ الحاكم أبي عبد الله في كتابه الأسماء والكنى أبا جمرة نصر بن عمران هذا في الأفراد فليس عنده في المحدثين من يكنى أبا جمرة بالجيم سواه ويروي عن ابن عباس حديثا واحدا ذكر فيه معاوية بن أبي سفيان وإرسال النبي صلى الله عليه وسلم إليه ابن عباس وتأخره واعتذاره. رواه مسلم في الصحيح. وحكى الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في كتابه علوم الحديث والقطعة التي شرحها في أول مسلم عن بعض الحفاظ أنه قال: إن شعبة بن الحجاج روى عن سبعة رجال يروون كلهم عن ابن عباس كلهم يقال له أبو حمزة بالحاء والزاي إلا أبا جمرة نصر بن عمران فبالجيم والراء قال: والفرق بينهم يدرك بأن شعبة إذا أطلق وقال: عن أبي جمرة عن ابن عباس فهو بالجيم. وهو نصر بن عمران. وإذا روى عن غيره ممن هو بالحاء والزاي فهو يذكر اسمه أو نسبه. والله أعلم.
قوله: (قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم)
قال صاحب التحرير: الوفد الجماعة المختارة من القوم ليتقدموهم في لقي العظماء والمصير إليهم في المهمات واحدهم وافد. قال: ووفد عبد القيس هؤلاء تقدموا قبائل عبد القيس للمهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكانوا أربعة عشر راكبا: الأشج العصري رئيسهم , ومزيدة بن مالك المحاربي , وعبيدة بن همام المحاربي , وصحار بن العباس المري , وعمرو بن مرجوم العصري , والحارث بن شعيب العصري , والحارث بن جندب من بني عايش. ولم نعثر بعد طول التتبع على أكثر من أسماء هؤلاء. قال: وكان سبب وفودهم أن منقذ بن حيان أحد بني غنم بن وديعة كان متجره إلى يثرب في الجاهلية , فشخص إلى يثرب بملاحف وتمر من هجر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. فبينا منقذ بن حيان قاعد إذ مر به النبي صلى الله عليه وسلم فنهض منقذ إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمنقذ بن حيان كيف جميع هيئتك وقومك؟ " ثم سأله عن أشرافهم رجل رجل يسميهم لأسمائهم. فأسلم منقذ وتعلم سورة الفاتحة واقرأ باسم ربك. ثم رحل قبل هجر. فكتب النبي صلى الله عليه وسلم معه إلى جماعة عبد القيس كتابا فذهب به وكتمه أياما , ثم اطلعت عليه امرأته وهي بنت المنذر بن عائذ بالذال المعجمة ابن حارث والمنذر هو الأشج سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم به لأثر كان في وجهه , وكان منقذ رضي الله عنه يصلي ويقرأ , فنكرت امرأته ذلك فذكرته لأبيها المنذر فقالت: أنكرت بعلي منذ قدم من يثرب: إنه يغسل أطرافه , ويستقبل الجهة تعني القبلة , فيحني ظهره مرة ويضع جبينه مرة , ذلك ديدنه منذ قدم , فتلاقيا فتجاريا ذلك فوقع الإسلام في قلبه. ثم ثار الأشج إلى قومه عصر ومحارب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقرأه عليهم , فوقع الإسلام في قلوبهم , وأجمعوا على السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فسار الوفد , فلما دنوا من المدينة قال النبي صلى الله عليه وسلم لجلسائه: " أتاكم
¥