وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين , وبه جزم ابن إسحاق , وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر , وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة , وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان. وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهي ما بين نزول " اقرأ " و " يا أيها المدثر " عدم مجيء جبريل إليه , بل تأخر نزول القرآن فقط. ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد , ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء , ولم ينزل عليه القرآن على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل , فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة. وأخرجه ابن أبي خيثمة من وحي آخر مختصرا عن داود بلفظ: بعث لأربعين , ووكل به إسرافيل ثلاث سنين , ثم وكل به جبريل فعلى هذا فيحسن - بهذا المرسل إن ثبت - الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة , فقد قيل ثلاث عشرة , وقيل عشر , ولا يتعلق ذلك بقدر مدة الفترة , والله أعلم. وقد حكى ابن التين هذه القصة , لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل , وأنكر الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال: لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل , انتهى. ولا يخفى ما فيه , فإن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم والله أعلم. وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه صلى الله عليه وسلم بمكة , فإنه قال: جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف , وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر , فمن قال مكث عشر سنين حذف مدة الرؤيا والفترة , ومن قال ثلاث عشرة أضافهما. وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت , وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما , وسيأتي مزيد لذلك في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى.
قوله: (قال ابن شهاب: أخبرني أبو سلمة)
إنما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف على ما سبق , كأنه قال: أخبرني عروة بكذا , وأخبرني أبو سلمة بكذا , وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف , وأخطأ من زعم أن هذا معلق وإن كانت صورته صورة التعليق , ولو لم يكن في ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة فإنها دالة على تقدم شيء عطفته , وقد تقدم قوله: عن ابن شهاب عن عروة فساق الحديث إلى آخره ثم قال: قال ابن شهاب - أي: بالسند المذكور - وأخبرني أبو سلمة بخبر آخر وهو كذا , ودل قوله عن فترة الوحي وقوله الملك الذي جاءني بحراء على تأخر نزول سورة المدثر عن اقرأ , ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير الآتية في التفسير عن أبي سلمة عن جابر عن هاتين الجملتين أشكل الأمر , فجزم من جزم بأن (يا أيها المدثر) أول ما نزل , ورواية الزهري هذه الصحيحة ترفع هذا الإشكال , وسياق بسط القول في ذلك في تفسير سورة اقرأ.
قوله: (فرعبت منه)
بضم الراء وكسر العين , وللأصيلي بفتح الراء وضم العين أي: فزعت , دل على بقية بقيت معه من الفزع الأول ثم زالت بالتدريج.
قوله: (فقلت زملوني زملوني)
وفي رواية الأصيلي وكريمة زملوني مرة واحدة , وفي رواية يونس في التفسير فقلت دثروني فنزلت (يا أيها المدثر قم فأنذر) أي: حذر من العذاب من لم يؤمن بك (وربك فكبر) أي عظم (وثيابك فطهر) أي: من النجاسة , وقيل الثياب النفس , وتطهيرها اجتناب النقائص , والرجز هنا الأوثان كما سيأتي من تفسير الراوي عند المؤلف في التفسير , والرجز في اللغة: العذاب , وسمى الأوثان هنا رجزا ; لأنها سببه.
قوله: (فحمي الوحي)
أي جاء كثيرا , وفيه مطابقة لتعبيره عن تأخره بالفتور , إذ لم ينته إلى انقطاع كلي فيوصف بالضد وهو البرد.
قوله: (وتتابع)
تأكيد معنوي , ويحتمل أن يراد بحمي: قوي , وتتابع: تكاثر , وقد وقع في رواية الكشميهني وأبي الوقت " وتواتر " , والتواتر مجيء الشيء يتلو بعضه بعضا من غير تخلل.
(تنبيه)
خرج المصنف بالإسناد في التاريخ حديث الباب عن عائشة , ثم عن جابر بالإسناد المذكور هنا فزاد فيه بعد قوله " تتابع ": قال عروة - يعني بالسند المذكور إليه - وماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة , فقال النبي صلى الله عليه وسلم " رأيت لخديجة بيتا من قصب , لا صخب فيه ولا نصب " قال البخاري: يعني قصب اللؤلؤ. قلت: وسيأتي مزيد لهذا في مناقب خديجة إن شاء الله تعالى.
قوله: (تابعه)
الضمير يعود على يحيى بن بكير , ومتابعة عبد الله بن يوسف عن الليث هذه عند المؤلف في قصة موسى. وفيه من اللطائف قوله عن الزهري: سمعت عروة.
قوله: (وأبو صالح)
هو عبد الله بن صالح كاتب الليث , وقد أكثر البخاري عنه من المعلقات , وعلق عن الليث جملة كثيرة من أفراد أبي صالح عنه. ورواية عبد الله بن صالح عن الليث لهذا الحديث أخرجها يعقوب بن سفيان في تاريخه عنه مقرونا بيحيى بن بكير , ووهم من زعم - كالدمياطي - أنه أبو صالح عبد الغفار بن داود الحراني , فإنه لم يذكر من أسنده عن عبد الغفار وقد وجد في مسنده عن كاتب الليث.
قوله: (وتابعه هلال بن رداد)
بدالين مهملتين الأولى مثقلة , وحديثه في الزهريات للذهلي.
قوله: (وقال يونس)
يعني ابن يزيد الأيلي , ومعمر هو ابن راشد.
(بوادره)
يعني أن يونس ومعمرا رويا هذا الحديث عن الزهري فوافقا عقيلا عليه , إلا أنهما قالا بدل قوله يرجف فؤاده ترجف بوادره , والبوادر جمع بادرة وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق تضطرب عند فزع الإنسان , فالروايتان مستويتان في أصل المعنى ; لأن كلا منهما دال على الفزع , وقد بينا ما في رواية يونس ومعمر من المخالفة لرواية عقيل غير هذا في أثناء السياق , والله الموفق. وسيأتي بقية شرح هذا الحديث في تفسير سورة (اقرأ باسم ربك) إن شاء الله تعالى
¥