لا شك أن جريمة القتل من أخطر الجرائم التي عرفتها الإنسانية على الإطلاق ولذلك عرفت العقاب عليه جميع النظم التشريعية منذ فجر التاريخ، فلم يخل تنظيم لجماعة إنسانية من تحريم القتل وتحديد العقاب عليه، ومع التشديد في هذه الجريمة إلا أننا نلمس عدة جوانب للرأفة والرحمة نذكر منها:
أولاً ــ أن التشريع الإسلامي لم يسلك جانب القصاص في جميع أنواع القتل، وإنما نظر إلى قصد الجاني في قتل المجني عليه واشترط لتوقيع القصاص على الجاني أمرين هما:
1ــ العدوان بأن يكون القتل عمداً وظلماً فنجد أن أنواع القتل الأخرى بخلاف العمد " شبه العمد، الخطأ، وشبه الخطأ " فيها الدية ولا قود فيها.
2ــ النتيجة التي أدى إليها هذا العدوان، وهو إزهاق روح المجني عليه (6)
ثانياً ــ أنه لا يعاقب بهذه العقوبة غير الجاني ذاته، فلا قصاص إلا من القاتل عمداً، فقد قام نظام القصاص في الجاهلية على أن القبيلة كلها تعتبر مسئولة عن الجناية التي يقترفها أي فرد من أفرادها وهذا المنظور ربما تجده الآن واضحاً في قضية (الثأر)، والذي لا يفرق صاحبه بين الجاني وغيره بل ربما تعدى وقتل من فعل وآخرين من قبيلته ممن لا ذنب لهم ولا جريرة، لكن التشريع الإسلامي يهدم هذا النظام الجاهلي ويعلن أن الجاني وحده هو المسئول عن جنايته وهو وحده الذي يؤخذ بجريرته.
ثالثاً ــ العدل والمساواة: فالتشريع الإسلامي لا يعفي أحداً من عقوبة القصاص المستحقة مهما كانت شخصيته لأن دماء المسلمين متكافئة. ولأن الأسس التي أرساها الإسلام كقاعدة عامة هي المساواة بين البشر فلا فرق في القصاص بين غني أو فقير إذ لا طبقية في الإسلام. ولقد ثبت أن النبي (?) كان يقيد من نفسه لغيره. ورد أنه (?) كان يعدل الصفوف في غزوة بدر بقضيب في يده فمر بسواد بن خزية الأنصاري وهو خارج من الصفوف فطعنه بقضيب كان في يده فقال: أوجعتني يا رسول الله. أقدني!! أي: أعطني القصاص، فكشف رسول الله (?) عن بطنه وقال: استقدي يا سواد.فاعتنقه وقبل بطنه. فقال (?) ما حملك على هذا يا سواد. قال: أردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك الشريف فدعى له رسول الله (?) بخير. (7)
من هنا فإن المسلم ليشعر بالفخر عندما يرى شريعته تذهب إلى أبعد مدى في المساواة بين المسلمين فتطبق عقوبة القصاص على الحاكم إذا قتل محكوماً بلا حق أو اعتدى عليه ظلماً، وهي في الوقت ذاته تعطي دليلا مقنعاً على سماحة الإسلام وروعته.
رابعاً ــ إسقاط القصاص إلى الدية الوارد في قوله تعالى: " فمن عفى له من أخيه شيء فإتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " البقرة/ 178. فهذا جانب عظيم من الرأفة والرحمة في جانب الجاني والشريعة الإسلامية في ذلك تفتح باباً للإخاء والترابط وبذلك يتماسك المجتمع ويقوى ويطهر مما يعوق مسيرته فلا نعود إلى ما كانت عليه الحياة في الجاهلية.
قال الشعبي وقتادة: " إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان فكان الحيُّ إذا كان فيه عزُّ ومنعة فقًًًًًًًًًًتل لهم عبد قتله عبد قوم آخرين قالوا لا نقتل به إلا حراً، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلاً. ويقولون: القتل أوفى للقتل، أو أنفى فنهاهم الله تعالى عن ذلك بقوله: " ولكم في القصاص حياة " البقرة / 179 وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم (8).
" وكذلك فإن هذا التشريع لم يكن في الديانات الأخرى، فأهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية، فجعل الله تعالى ذلك تخفيفاً ورحمة لهذه الأمة فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا. (9)
من جوانب الرأفة والرحمة في عقوبة الزنا
الشريعة الإسلامية مع رغبتها الأكيدة في تحريم الزنا إذ أن فيه ضياعاً للأنساب و للحرمات، وهتكاً للأعراض فإنها لم تهمل شخصية الجاني بل تدرجت في العقاب بحسب حال الجاني في نفسه، فنجد أن النصوص تلحق بالجاني عقوبة قاسية لكنها لم تهمل شخصيته فإن كان غير محصن مثلاً فعقوبته غير مهلكة، وإن كان محصناً فعقوبته الموت رجماً، ومع شدة هذه العقوبة إلا أن الاثبات فيها يبدو في ظاهره عسيراً وهذه جوانب الرأفة والرحمة في تلك العقوبة:
¥