ومن المؤسف أن هذه السنة من التسوية قد تهاون بها المسلمون , بل أضاعوها؛ إلا القليل منهم؛ فإني لم أرها عند طائفة منهم إلا أهل الحديث؛ فإني رأيتهم في مكة سنة 1386هـ حريصين على التمسك بها كغيرها من سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ بخلاف غيرهم من أتباع المذاهب الأربعة -لا أستثني منهم حتى الحنابلة- فقد صارت هذه السنة عندهم نسياً منسياً , بل إنهم تتابعوا على هجرها والإعراض عنها , ذلك لأن أكثر مذاهبهم نصَّت على أن السنة في القيام التفريج بين القدمين بقدر أربع أصابع , فإن زاد كره؛ كما جاء مفصلاً في "الفقه على المذاهب الأربعة" (1/ 207) , والتقدير المذكور لا أصل له في السنة , وإنما هو مجرد رأي , ولو صح لوجب تقييده بالإمام والمنفرد حتى لا يعارَض به هذه السنة الصحيحة؛ كما تقتضيه القواعد الأصولية.
وخلاصة القول: إنني أهيب بالمسلمين -وبخاصة أئمة المساجد- الحريصين على اتباعه صلى الله عليه وسلم , واكتساب فضيلة إحياء سنته صلى الله عليه وسلم؛ أن يعملوا بهذه السنة , ويحرصوا عليها , ويدعوا الناس إليها , حتى يجتمعوا عليها جميعاً , وبذلك ينجون من تهديد:"أو ليخالفن الله بين قلوبكم".
الثالثة: في الحديث الأول معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم , وهي رؤيته صلى الله عليه وسلم من ورائه , ولكن ينبغي أن يعلم أنها خاصة في حالة كونه صلى الله عليه وسلم في الصلاة , إذ لم يرد في شيء من السنة أنه كان يرى كذلك خارج الصلاة أيضاً. والله أعلم.
الرابعة: في الحديثين دليل واضح على أمر لا يعلمه كثير من الناس , وإن كان صار معروفاً في علم النفس , وهو أن فساد الظاهر يؤثر في فساد الباطن , والعكس بالعكس , وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة , لعلنا نتعرَّض لجمعها في مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى.
الخامسة: أن شروع الإمام في تكبيرة الإحرام عند قول المؤذِّن: "قد قامت الصلاة" بدعة؛ لمخالفتها للسنة الصحيحة؛ كما يدل على ذلك هذان الحديثان , لا سيما الأول منهما؛ فإنهما يفيدان أن على الإمام بعد إقامة الصلاة واجباً ينبغي عليه القيام به , وهو أمر الناس بالتسوية؛ مذكراً لهم بها؛ فإنه مسؤول عنهم: "كلكم راع , وكلكم مسؤول عن رعيته .... ". إنتهى كلامه رحمه الله.
ـ[قلب الحبيب]ــــــــ[14 - 11 - 2007, 08:57 م]ـ
:::
السلام عليكم
رحم الله شيخنا أبا عبدالرحمن الألباني، وأحسن الله إليك أخي أسامة، ونفع بك الإسلام والمسلمين، هلا استمريت في إتحافنا بهذي الدرر يا درة في هذا المنتدى، أرجو لك دوام التوفيق.
ـ[اسامة2]ــــــــ[15 - 11 - 2007, 09:54 ص]ـ
قال صلى الله عليه وسلم: ((الأذنان من الرأس)). رواه أبو داود وغيره.
فقه الحديث:
وإذ قد صحَّ الحديث؛ فهو يدل على مسألتين من مسائل الفقه , اختلفت أنظار العلماء فيهما:
أما المسألة الأولى؛ فهي أن مسح الأذنين هل هو فرض أم سنة؟
ذهب إلى الأول الحنابلة , وحجتهم هذا الحديث؛ فإنه صريح في إلحاقهما بالرأس , وما ذلك إلا لبيان أن حكمهما في المسح كحكم الرأس فيه.
وذهب الجمهور إلى أن مسحهما سنة فقط؛ كما في "الفقه على المذاهب الأربعة" (1/ 56) , ولم نجد لهم حجة يجوز التمسك بها في مخالفة هذا الحديث؛ إلا قول النووي في "المجموع" (1/ 415):
"إنه ضعيف من جميع طرقه"!
وإذا علمت أن الأمر ليس كذلك , وأن بعض طرقه صحيح , لم يطلع عليه النووي , وبعضها الآخر صحيح لغيره؛ استطعت أن تعرف ضعف هذه الحجة , ووجوب التمسك بما دلَّ عليه الحديث من وجوب مسح الأذنين , وأنهما في ذلك كالرأس , وحسبك قدوة في هذا المذهب إمام السنة أبو عبد الله أحمد بن حنبل , وسلفه في ذلك جماعة من الصحابة؛ وقد عزاه النووي (1/ 413) إلى الأكثرين من السلف.
وأما المسألة الأخرى؛ فهي: هل يكفي في مسح الأذنين ماء الرأس أم لا بد لذلك من جديد؟ ذهب إلى الأول الأئمة الثلاثة؛ كما نصَّ في "فيض القدير" للمناوي؛ فقال في شرح الحديث:
" (الأذنان من الرأس): لا من الوجه , ولا مستقلتان؛ يعني: فلا حاجة إلى أخذ ماء جديد منفرد لهما غير ماء الرأس في الوضوء , بل يجزئ مسحهما ببلل ماء الرأس ,وإلا لكان بياناً للخلقة فقط , والمصطفى صلى الله عليه وسلم لم يُبعث لذلك , وبه قال الأئمة الثلاثة ".
وخالف في ذلك الشافعية , فذهبوا إلى أنه يسن تجديد الماء للأذنين ومسحهما على الإنفراد , ولا يجب , واحتج النووي لهم بحديث عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ لأذنيه ماءً خلاف الذي أخذ لرأسه.
قال النووي في "المجموع" (1/ 412):
" حديث حسن , رواه البيهقي , وقال: إسناده صحيح ".
وقال في مكان آخر (1/ 414):
" وهو حديث صحيح كما سبق بيانه قريباً؛ فهذا صريح في أنهما ليستا من الرأس؛ إذ لو كانتا منه؛ لما أخذ لهما ماء جديداً كسائر أجزاء الجسد , وهو صريح في أخذ ماء جديد ".
قلت: ولا حجة فيه على ما قالوا؛ إذ غاية ما فيه مشروعية أخذ الماء لهما , وهذا لا ينافي جواز الاكتفاء بماء الرأس؛ كما دلَّ عليه هذا الحديث , فاتفقا ولم يتعارضا , ويؤيد ما ذكرت أنه صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم:
"إنه مسح برأسه من فضل ماء كان في يده".
رواه أبو داود ...... .
وهذا كله يُقال على فرض التسليم بصحة حديث عبد الله بن زيد , ولكنه غير ثابت , بل شاذ كما ذكرت في " صحيح أبي داود " (رقم 111) , وبينته في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" تحت رقم (997).
وجملة القول: فإن أسعد الناس بهذا الحديث من بين الأئمة الأربعة أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين؛ فقد أخذ بما دلَّ عليه الحديث في المسألتين , ولم يأخذ به في الواحدة دون الأخرى كما صنع غيره. إنتهى كلامه رحمه الله.
¥