وإن من عجائب التعصب للمذهب ضد الحديث أن يستدل البعض به لمذهبه في مسألة , ويخالفه في هذه المسألة التي نتكلم فيها! وأن يستشكله آخر من أجلها! فإلى الله المشتكى مما جرَّه التعصب على أهله من المخالفات للسنة الصحيحة!.
قال الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 229) بعد أن ساق حديث أبي هريرة هذا وغيره مما في معناه: " وهذه الأحاديث أيضاً مشكلة عند مذهبنا في القول ببطلان صلاة الصبح إذا طلعت عليها الشمس , والمصنف استدل به على أن آخر وقت العصر ما لم تغرب الشمس "!!
فيا أيها المتعصبون! هل المشكلة مخالفة الحديث الصحيح لمذهبكم! أم العكس هو الصواب؟!
الفائدة الثانية: الرد على من يقول: إن الإدراك يحصل بمجرد إدراك أي جزء من أجزاء الصلاة , ولو بتكبيرة الإحرام , وهذا خلاف ظاهر للحديث , وقد حكاه في "منار السبيل" قولا للشافعي , وإنما هو وجه في مذهبه؛ كما في "المجموع" للنووي (3/ 63) , وهو مذهب الحنابلة , مع أنهم نقلوا عن الإمام أحمد أنه قال: "لا تدرك الصلاة إلا بركعة"؛ فهو أسعد الناس بالحديث. والله أعلم.
قال عبد الله بن أحمد في "مسائله" (ص46):"سألت أبي عن رجل يصلي الغداة؟ فلما صلى ركعة قام في الثانية طلعت الشمس؟ قال: يتم صلاته , وهي جائزة. قلت لأبي: فمن زعم أن ذلك لا يجزئه؟ فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من أدرك من صلاة الغداة ركعة قبل أن تطلع الشمس؛ فقد أدرك ".
ثم رأيت ابن أبي نجيح البزار روى في "حديثه" (ق111/ 1) بسند صحيح عن سعيد بن المسيب أنه قال:
"إذا رفع رأسه من آخر سجدة؛ فقد تمت صلاته ".
ولعله يعني آخر سجدة من الركعة الأولى , فيكون قولاً آخر في المسألة , والله أعلم.
الفائدة الثالثة: واعلم أن الحديث إنما هو في المتعمد تأخير الصلاة إلى هذا الوقت الضيق؛ فهو على هذا آثم بالتأخير -وإن أدرك الصلاة- لقوله صلى الله عليه وسلم: "تلك صلاة المنافق؛ يجلس يرقب الشمس؛ حتى إذا كانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقرها أربعاً؛ لا يذكر الله فيها إلا قليلاً ". رواه مسلم وغيره.
وأما غير المتعمد - وليس هو إلا النائم الساهي- فله حكم آخر , وهو أنه يصليها متى تذكرها , ولو عند طلوع الشمس وغروبها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نسي صلاة "أو نام عنها"؛ فليصلها إذا ذكرها , لا كفارة لها إلا ذلك؛ "فإن الله تعالى يقول: (أقم الصلاة لذكري) ". أخرجه مسلم وغيره.
فإذن؛ هنا أمران: الإدراك , والإثم.
والأول هو الذي سيق الحديث لبيانه , فلا يتوهمن أحد من سكوته عن الأمر الآخر أنه لا يأثم عليه بالتأخير , كلا؛ بل هو آثم على كل حال؛ أدرك الصلاة أو لم يدرك , غاية ما فيه أنه اعتبره مدركاً للصلاة بإدراك الركعة , وغير مدرك لها إذا لم يدركها؛ ففي الصورة الأولى صلاته صحيحة مع الإثم , وفي الصورة الأخرى صلاته غير صحيحة مع الإثم أيضاً , بل هو به أولى وأحرى؛ كما لا يخفى على أولي النهى.
الفائدة الرابعة: ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فليتم صلاته"؛ أي: لأنه أدركها في وقتها وصلاَّها صحيحة , وبذلك برئت ذمته , وأنه إذا لم يدرك الركعة؛ فلا يتمها؛ لأنها ليست صحيحة بسبب خروج وقتها؛ فليست مبرئة للذمة.
ولا يخفى أن مثله -وأولى منه- مَن لم يدرك من صلاته شيئاً قبل خروج الوقت؛ فإنه لا صلاة له , ولا هي مبرئة لذمته؛ أي: أنه إذا كان الذي لم يدرك الركعة لا يؤمر بإتمام الصلاة؛ فالذي لم يدركها إطلاقاً أولى أن لا يؤمر بها , وليس ذلك إلا من باب الزجر والردع له عن إضاعة الصلاة , فلم يجعل الشارع الحكيم لمثله كفارة كي لا يعود إلى إضاعتها مرة أخرى؛ متعلِّلاً بأنه يمكنه أن يقضيها بعد وقتها , كلا فلا قضاء للمتعمد؛ كما أفاده هذا الحديث الشريف وحديث أنس السابق: "لا كفارة لها إلا ذلك ".
¥