ومن ذلك يتبين لكل من أوتي شيئاً من العلم والفقه في الدين؛ أن قول بعض المتأخرين: " وإذا كان النائم والناسي للصلاة -وهما معذوران- يقضيانها بعد خروج وقتها؛ كان المتعمد لتركها أولى ": أنه قياس خاطئ؛ بل لعله من أفسد قياس على وجه الأرض؛ لأنه من باب قياس النقيض على نقيضه , وهو فاسد بداهة , إذ كيف يصح قياس غير المعذور على المعذور والمتعمد على الساهي؟! ومن لم يجعل الله له كفارة على من جعل الله له كفارة؟! وما سبب ذلك إلا من الغفلة عن المعنى المراد من هذا الحديث الشريف , وقد وفقنا الله تعالى لبيانه , والحمد لله تعالى على توفيقه.
وللعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى بحث هام مفصل في هذه المسألة , أظن أنه لم يسبق إلى مثله في الإفادة والتحقيق , وأرى من تمام هذا البحث أن أنقل منه فصلين: أحدهما في إبطال هذا القياس , والآخر في الرد على من استدل بهذا الحديث على نقيض ما بيّنا , قال رحمه الله بعد أن ذكر القول المتقدم:
" فجوابه من وجوه:
أحدها: المعارضة بما هو أصح منه أو مثله , وهو أن يقال:
لا يلزم من صحة القضاء بعد الوقت من المعذور - المطيع لله ورسوله الذي لم يكن منه تفريط في فعل ما أمر به وقبوله منه- صحته وقبوله من متعدٍّ لحدود الله , مضيع لأمره , تارك لحقه عمداً وعدواناً؛ فقياس هذا في صحة العبادة وقبولها منه وبراءة الذمة بها من أفسد القياس.
الوجه الثاني: أن المعذور بنوم أو نسيان لم يصل الصلاة في غير وقتها , بل في نفس وقتها الذي وقَّته الله له؛ فإن الوقت في حق هذا حين يستيقظ ويذكر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: " من نسي صلاة؛ فوقتها إذا ذكرها " (1) رواه البيهقي والدار قطني؛ فالوقت وقتان: وقت اختيار , ووقت عذر , فوقت المعذور بنوم أو سهو هو وقت ذكره واستيقاظه؛ فهذا لم يصلِّ الصلاة إلا في وقتها , فكيف يقاس عليه من صلاها في غير وقتها عمداً وعدواناً؟!
الثالث: أن الشريعة قد فرَّقت في مواردها ومصادرها بين العامد والناسي , وبين المعذور وغيره , وهذا مما لا خفاء به؛ فإلحاق أحد النوعين بالآخر غير جائز.
الرابع: أنا لم نسقطها عن العامد المفرط ونأمر بها المعذور حتى يكون كما ذكرتم حجة علينا , بل ألزمنا بها المفرط المتعدي على وجه لا سبيل إلى استدراكها تغليظاً عليه , وجوزنا للمعذور غير المفرط.
(فصل): وأما استدلالكم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرك "؛ فما أصحه من حديث! وما أراه على مقتضى قولكم! فإنكم تقولون: هو مدرك للعصر , ولو لم يدرك من وقتها شيئاً البتة؛ بمعنى: أنه مدرك لفعلها صحيحة منه مبرئة لذمته , فلو كانت تصح بعد خروج وقتها وتقبل منه؛ لم يتعلق إدراكها بركعة , ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن من أدرك ركعة من العصر صحت صلاته بلا إثم , بل هو آثم بتعمد ذلك اتفاقاً؛ فإنه أمر أن يوقع جميعها في وقتها , فعلم أن هذا الإدراك لا يرفع الإثم , بل هو مدرك آثم , فلو كانت تصح بعد الغروب؛ لم يكن فرق بين أن يدرك ركعة من الوقت؛ أو لا يدرك منها شيئاً.
فإن قلتم: إذا أخرها على الغروب؛ كان أعظم إثماً.
قيل لكم: النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرِّق بين إدراك الركعة وعدمها في كثرة الإثم وخفته , وإنما فرق بينهما في الإدراك وعدمه , ولا ريب المفوِّت لمجموعها في الوقت أعظم من المفوِّت لأكثرها , والمفوت لأكثرها فيه أعظم من المفوت لركعة منها.
فنحن نسألكم ونقول: ما هذا الإدراك الحاصل بركعة؟ أهذا إدراك يرفع الإثم؟ فهذا لا يقوله أحد! أو إدراك يقتضي الصحة؟ فلا فرق بين أن يفوِّتها بالكلية , أو يفوِّتها إلا ركعة منها! ".
هامش
1 - قلت: هو بهذا اللفظ لا يثبت , في إسناده ضعف , وإن كان في المعنى يغني عنه حديث أنس المتقدم.
ـ[قلب الحبيب]ــــــــ[25 - 11 - 2007, 04:43 م]ـ
السلام عليكم
جزاكم الله خيرا ونفع بكم الإسلام والمسلمين.
ـ[اسامة2]ــــــــ[25 - 11 - 2007, 07:56 م]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله
وجزاك أخي الفاضل.
ـ[اسامة2]ــــــــ[26 - 11 - 2007, 11:15 ص]ـ
أجزل الله لك العطاء أبا طارق وبورك فيك.
ـ[اسامة2]ــــــــ[28 - 11 - 2007, 06:02 م]ـ
قال صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلى سيدكم فأنزلوه. فقال عمر: سيدنا الله عز وجل. قال: أنزِلوه. فأنزَلوه)). أخرجه أحمد وغيره.
فائدتان:
1.اشتهر رواية هذا الحديث بلفظ: "لسيدكم" , والرواية في الحديثين كما رأيت: "إلى سيدكم" , ولا أعلم للفظ الأول أصلاً , وقد نتج منه خطأ فقهي , وهو الاستدلال به على استحباب القيام للقادم كما فعل ابن بطَّال وغيره.
قال الحافظ محمد بن ناصر أبو الفضل في "التنبيه على الألفاظ التي وقع في نقلها وضبطها تصحيف وخطأ في تفسيرها ومعانيها وتحريف في كتاب الغريبين عن أبي عبيد الهروي" (ق17/ 2):
"من ذلك ما ذكره في هذا الباب من ذكر السيد , وقال كقوله لسعد حين قال: "قوموا لسيدكم" , قاله صلى الله عليه وسلم لجماعة من الأنصار لما جاء سعد بن معاذ محمولاً على حمار, وهو جريح ..... أي: أنزلوه واحملوه , لا قوموا له من القيام له؛ فإنه أراد بالسيد: الرئيس المتقدم عليهم , وإن كان غيره أفضل منه ".
2.اشتهر الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية القيام للداخل , وأنت إذا تأملت في سياق القصة؛ يتبين لك أنه استدلال ساقط من وجوه كثيرة: أقواها قوله صلى الله عليه وسلم: "فأنزلوه"؛ فهو نص قاطع على أن الأمر بالقيام إلى سعد إنما كان لإنزاله من أجل كونه مريضاً , ولذلك قال الحافظ: "وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه , وقد احتج به النووي في (كتاب القيام) ....... ".
¥