تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ليس من الواقعية أن ينتظر المرء وعيا شعبيا عاما بقضية تدهور وضعية اللغة العربية الفصحى بالوطن العربي. وكيف يمكن ذلك والحال أن نسبة الأمية التقليدية نفسها (ناهيك عن الأمية الجديدة) لازالت سائدة في كثير من المجتمعات العربية؟. أما بالنسبة للمتعلمين، فمسألة تردي الفصحى لا تطرح بحماس وجدية من طرف أغلبيتهم اليوم. ولعل هذا الصمت يرجع إلى بعض أو كل الأسباب التالية:

1 - الخلط في التصور (نتيجة لعامل تأثير التشابه) بين استعمال العامية والفصحى. وهو يشبه الخلط بين مفهوم التعريب ومفهوم استعمال الفصحى السليمة.

2 - إن استعمال العامية، من جهة، في الحياة الاجتماعية كلسان تخاطب جماعي والجهل الشائع، من جهة أخرى، بأسس اللسان العربي الفصيح حتى بين نخبة المثقفين (من أساتذة وطلاب جامعات) لا يشجع بأي حال من الأحوال على إثارة مسؤولة لقضية تدهور الفصحى نحو وصرفا وتعبيرا وكتابة وقراءة وحديثا في العالم العربي الحديث على العموم.

3 - إن معرفة الفصحى لا يضمن العيش الكريم كما هو الحال في العديد من ميادين العمل بمجتمعات المغرب العربي وغيرها من المجتمعات العربية. وهذا لا يعني أن ليس هناك من أبناء وبنات هذه الأمة من لا يعتبر حالة الفصحى المتردية في المجتمعات العربية وحتى مؤسساتها الثقافية قضية لا يمكن الصمت عنها. لكن نداءات هذه الأقلية الواعية بأزمة الفصحى في المشرق والمغرب العربيين لا ينبغي أن ينتظر منها أن تحدث تغييرا ملموسا ما لم تترجم هذه الاحتجاجات إلى تطبيقات فعلية على مستويات شعبية ومؤسساتية. فالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مثلا، لا يبدو أنها واعية بمفهوم تدهور اللغة العربية الفصحى كما طرحت هنا. فالمنظمة تعددت أنشطتها ومشاغلها، لكن تجذير الفصحى السليمة في الوطن العربي بين المتعلمين ابتداء من مراحل تعليمهم الأولى لا يبدو أنه همّ من هموم المنظمة فهذه الأخيرة قادرة على أن تؤثر عبر حملات التوعية بأزمة الفصحى في كل أنظمة التعليم بالعالم العربي. ولكن صمت المختصين والمهتمين بميادين الثقافة والتربية والعلوم عن قضية غربة الفصحى السليمة بالعالم العربي حتى في الجامعات العربية هو ظاهرة في حد ذاتها حرية بالدراسة (3). وبالتالي فإن مفهوم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لـ "الأمن اللغوي" للوطن العربي يحتاج إلى أكثر من تساؤل. وعند اتصالنا باتحاد الجامعات العربية بالرياض لمعرفة إذا كانت هناك دراسات أو إحصائيات عن مدى استعمال الفصحى بالجامعات العربية عبر الوطن العربي اعترف المسؤولون الذين التقينا بهم بأنهم يجهلون وجود مثل هذه الدراسة. وأن كل ما يعرفونه هو عقد ندوات ومؤتمرات تمس من قريب أو من بعيد قضية التعريب. وتوصي جميعها على العموم بإعطاء كل الإمكانيات لدفع حركة التعريب في كل الميادين (ورغم العلاقة الظاهرة بين عمليتي تعريب المصطلحات والعبارات و "تفصيحها" نحوا وصرفا وتعبيرا وحديثا ... فإنه بوجود العاميات العربية ذات الاستعمال الواسع أصبحت العلاقة بين التعريب والتفصيح علاقة غير طردية بالضرورة كما بينّا: أي أنه ليس صحيحا أنه كلما عربنا كلما تحسنت استعمالاتنا للفصحى السليمة. ونظرا لاستعمال العاميات العربية بنسبة عالية حتى في تدريس الفصحى نفسها فإن التعريب أصبح يعني أساسا تحسين وإثراء العاميات وليس تمكين الإنسان العربي المعرب بالضرورة من إلمام بالفصحى يجعله قادرا على استعمالها كتابة وقراءة وكلاما بطريقة سهلة وسليمة.

الانعكاسات الخطيرة لتدهور الفصحى

لقد حددنا في هذا المقال بعض المؤشرات لقياس تدهور مستوى الفصحى بين المتعلمين في الوطن العربي اليوم، وبالتالي الأخطار المحدقة بالأمن اللغوي للأمة العربية. فما هي ما ترى انعكاسات هذا الواقع اللغوي المتدني على موقف، مثلا، الطلبة الجامعيين إزاء اللغة العربية الفصحى كلغة؟ ثم ما هي آثار هذا الموقف على المجتمعات العربية؟.

إن الموقف العام الذي يصادفه الملاحظ لموقف الطالب والطالبة العربيين ذوي التكوين المتردي في اللسان العربي الفصيح هو موقف الحب والكراهية معا حيال الفصحى. فمن ناحية يشعرك الطالب العربي بعفوية بأن للعربية الفصحى في نفسه مكانة محترمة تستمد تجذرها من كونها الوعاء الرمزي للمسات القدسية والتراثية للانتماء العربي الإسلامي. لكن، من ناحية ثانية، يلحظ المرء ملامح الموقف العدائي المتخنس أو الصارخ عند كثير من الطلبة إزاء الفصحى خاصة تلك التي تنحرف عن أسلوب الجرائد والمجلات الشعبية. ومثل هذا الموقف ليس بغريب فعلا. فجذور الكراهية المستترة أو الناطقة ترجع بكل بساطة إلى مبدأ قانون: "جاهل الشيء كارهه". وأما الشعور بالاحترام والحب للسان العربي الفصيح فهو يعود باختصار إلى مدى اقتران وعلاقة هذا الأخير خاصة بأسس ذاتية الإنسان العربي المسلم. ومن هنا فتدني الفصحى في حد ذاتها ليس قضية لغوية بحتة كما يتبادر إلى الأذهان وإنما تمس انعكاساتها ذاتية الإنسان العربي نفسها طالما ظل هذا الأخير يعتبر اللغة العربية الفصيحة مذكرة تاريخه الماضي وبطاقة تعريفه في الحاضر وأداة تعبير على أماله المستقبلية. وبانتشار مثل هذا الموقف (الحب والكراهية) بين المتعلمين العرب يصبح للظواهر الآتية منطق ذو ثقل وأخطار على مستقبل هذه الأمة:

أ/تفشي العزوف العام عن القراءة بالفصحى بين المتعلمين بالعالم العربي اليوم.

ب/ندرة الابتكارات بالوطن العربي. ويرجع هذا حسب آخر البحوث اللغوية إلى العلاقة الوثيقة بين معرفة اللغة الوطنية (القومية) والمقدرة الذهنية المعرفية).

ج/إن تردي الفصحى وسطوة العاميات المتعددة على مجرى الحياة في مجتمعات الوطن العربي بما فيها الجامعات العربية قد يؤديان إلى ضعف رابطة الانتماء العربي الكبير. فالفصحى - لا تزال كما كانت في أولى الفتوحات الإسلامية - أكبر عامل موحد بعد الإسلام لأمة العرب.

* قسم علم الاجتماع والعمل الاجتماعي

جامعة السلطان قابوس- مسقط / عمان

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير