تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ذهب سعيد إلى استانبول ليطلب من السلطان عبدالحميد إنقاذ المناطق الشرقية من الجهل والافتقار إلى المدارس، وهناك أرسلوه إلى مستشفى المجانين، فكتب يقول: «كنت سابقًا أحسب أن فساد الشرق نابع من تعرض عضو منه للمرض، ولكن لما شاهدت استانبول المريضة وجسستُ نبضها، وشرحتها، أدركت أن المرض هو في القلب، وسرى منه إلى جميع الجهات، فحاولت علاجه، ولكن أُكرمت بإلصاق صفة الجنون بي! حيث إن وشاية الحاسدين والخصماء، أدت بي أن أساق إلى مستشفى المجاذيب بأمر السلطان عبدالحميد رحمه الله رحمة واسعة».

وفي المستشفى تحدث طويلاً إلى الطبيب المكلف بفحص قواه العقلية، فكان من جملة الحديث من آرائه في تنظيم طلب العلم أن قال للطبيب: «لما قدمت استانبول شاهدت المدارس الدينية لم تتقدم كالمرافق الأخرى في البلاد، وأعزو سبب ذلك إلى إقامة الاستعداد ـ الذي هو القدرة على الاستنباط من الكتاب ـ موضع الملكة، ونشوء حالات التعطل، وفقدان الشوق، وضعف الملكة لدى الطلاب الناشئة من عدم إجراء المناظرات العلمية.

ثم إن العلوم الإلهية لا تُكسب كسائر العلوم، حيث إنها علوم مقصودة بالذات، تنتج لذة حقيقية. فلا هي كالعلوم الكونية المثيرة للحيرة والإعجاب، ولا هي كعلوم اللهو التي يقضى بها الوقت. لذا يلزم لكسب العلوم الإلهية، همة عالية، أو توغل تام، أو مسابقة بدافع مشوق، أو تنفيذ قاعدة تقسيم الأعمال. أي يتوغل كل طالب في علوم معينة بحسب استعداده، حتى يتخصص فيها ولا يظل سطحيًا عابرًا. حيث إن لكل علم من العلوم صورة حقيقية، إن فقدت الملكة يغدو بعض أجزائه ناقصة كالصورة الناقصة. أي على الطالب المستعد أن يتخذ علمًا من العلوم أساسًا له، ويأخذ خلاصة من كل علم من العلوم المتعلقة به، لإتمام صورة ذلك العلم. لأن كل خلاصة يمكن عدها مكملة للصورة الأساس من دون أن تشكل صورة مستقلة.

فيا طلاب العلوم الدينية الذين يسمعون صوتي! لنكن خير خلف لسلفنا الذين بلغوا أوج الكمال، ولنسع في سبيل ذلك كطلاب المدارس الحديثة الذين أصبحوا خير خلف لسلفهم الناقصين» ثم أردف: «إن الإسلام الذي يمثل الحضارة الحقة في عصر الرقي والتقدم هذا، لم يترق كالحضارة الحاضرة. وأرى أن أهم سبب في ذلك هو: تباين الأفكار وتخالف المشارب بين أهل المدارس الدينية والمدارس الحديثة والزوايا. فأهل المدرسة الدينية يتهمون أهل المدرسة الحديثة بضعف العقيدة لتأويلهم ظواهر بعض الآيات والأحاديث تأويلاً يفضي إلى غير المراد منها. وهؤلاء يعدون أولئك غير موثوق بهم لعدم إقبالهم على العلوم الحديثة، في حين ينظر أهل المدارس الحديثة إلى التكايا والزوايا كأنهم أهل بدعة حيث يبنون رأيهم هذا على ظن باطل لدى العوام وبعض الجهلاء الذين يعدون أعمالاً وحركات في الذكر ـ الذي هو عبادة ـ أنها من الذكر نفسه، في حين أنها موضوعة للحث وتزييد الشوق، ولا تجوز إلا إذا كانت مباحة. وقد فتح باب التساهل بتفريط هؤلاء وإفراط أولئك اختلاط بعض البدع مع الذكر.

فهذا التباين في الأفكار والتخالف في المشارب قد هز الأخلاق الإسلامية هزًا وأخرها عن ركب المدنية.

وعلاج هذا: تدريس العلوم الدينية في المدارس الحديثة تدريسًا حقيقيًا، وتحصيل بعض العلوم الحديثة في المدارس الدينية في موضع الحكمة القديمة التي أصبحت لا ضرورة لها .. وكذا وجود علماء متبحرين في التكايا .. »

وعرج النورسي نزيل مستشفى المجانين على تحديث الخطاب الديني، فقال عن الوعاظ: «إنني استمعت إلى الوعاظ. فلم تؤثر في نصائحهم ووعظهم. فتأملت في السبب، فرأيت أنه فضلاً عن قساوة قلبي هناك ثلاثة أسباب:

ü أنهم يتناسون الفرق بين الحاضر والماضي فيبالغون كثيرًا في تصوير دعاواهم محاولين تزويقها دون إيراد الأدلة الكافية التي لابد منها للتأثير وإقناع الباحث عن الحقيقة، فالزمن الحاضر ـ كان ذلك سنة 1907م ـ أكثر حاجة إلى إيراد الأدلة.

ü أنهم عند ترغيبهم بأمر ما وترهيبهم منه يُسقطون قيمة ما هو أهم منه، فيفقدون بذلك المحافظة على الموازنة الدقيقة الموجودة في الشريعة، أي لا يميزون بين المهم والأهم. (التمييز بين الضرورات والحاجيات والتحسينات).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير