تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ü أن مطابقة الكلام لمقتضى الحال هي أرقى أنواع البلاغة، فلا بد أن يكون الكلام موافقًا لحاجات العصر. لكنهم لا يتكلمون بما يناسب تشخيص علة هذا العصر، وكأنهم يسحبون الناس إلى الزمان الغابر، فيحدثونهم بلسان ذلك الزمان.

فعلى الوعاظ والمرشدين المحترمين أن يكونوا محققين ليتمكنوا من الإثبات والإقناع. وأن يكونوا أيضًا مدققين لئلا يفسدوا توازن الشريعة. وأن يكونوا بلغاء مقنعين كي يوافق كلامهم حاجات العصر. وعليهم أيضًا أن يَزنوا الأمور بموازين الشريعة»

كتب عنه الطبيب في تقريره: «لا يوجد بين القادمين إلى استانبول من يملك ذكاء وفطنة مثله. إنه نادرة العالم!» فصُرف من المستشفى، وأبعد من استانبول.

المعلم الأسير: أصابتني أربع قذائف دفعة واحدة، وجُرحت وانكسرت ساقي، فبقيت في الماء والطين أربعًا وثلاثين ساعة منتظرًا الموت، ومحاصرًا من قبل العدو. فهذا الوقت يعد أحلك أوقاتي اليائسة وأشدها رهبة. والبرد الشديد يهلكنا فالثلوج تغطى كل مكان والجوع يفتك بنا ـ منذ ثلاثة أيام ـ فضلاً عن الأرق الشديد والخوف يلفنا من كل جانب.

وأُخذ البطل أسيرًا إلى سيبريا، وما أدراك ما سيبريا. وظل في الأسر سنتين ونصف السنة تقريبًا حتى تمكن من الفرار وعاد إلى إستانبول سنة 1336هـ. وكان في الأسر معلمًا لتسعين ضابطًا في الأسر معه، يقول: «وكنت أُلقي عليهم أحيانًا الدرس. وذات يوم حضر القائد الروسي وشاهد الموقف وقال: إن هذا الكردي قائد المتطوعين قد ذبح كثيرًا من جنودنا، ويأتي الآن ويلقي دروسًا سياسية هنا، لا يمكن هذا، امنعه قطعًا، ومنعني مرة واحدة فقط ولكنه سمح لي بعد ذلك».

وفي معسكر الأسرى لا تنتهي المواقف التربوية ـ تذكرنا بأسد برقة عمر المختار ـ ففي يوم من الأيام عندما يزور نيقولا نيقولافيج المعسكر للتفتيش ـ يقوم له الأسرى احترامًا ـ وعندما يمر من أمام بديع الزمان لا يحرك ساكنًا ولا يهتم به، مما يلفت نظر القائد العام، فيرجع ويمر من أمامه بحجة أخرى، فلا يكترث به أيضًا. وفي المرة الثالثة يقف أمامه، وتجري بينهما المحاورة الآتية بوساطة مترجم:

ـ أما عرفته؟

ـ نعم أعرفه إنه نيقولا نيقولافيج، خال القيصر والقائد العام لجبهة القفقاس.

ـ فِلمَ إذًا قصد الإهانة؟

ـ كلا! معذرة. إنني لم أستهن به. وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.

ـ وماذا تأمر العقيدة؟

ـ إنني عالم مسلم أحمل في قلبي الإيمان، فالذي يحمل الإيمان في قلبه أفضل ممن لا يحمله، فلو أنني قد قمت له احترامًا لكنت إذًا قليل الاحترام لعقيدتي، ولهذا لم أقم له.

ـ إذًا فهو بإطلاقه صفة عدم الإيمان عليّ يكون قد أهانني وأهان جيشي وأهان أمتي والقيصر فليشكل حالاً محكمة عسكرية للنظر في استجوابه.

وتتشكل محكمة عسكرية بناء على هذا الأمر، ويأتي الضباط الأتراك والألمان والنمساويون للإلحاح على بديع الزمان بالاعتذار من القائد الروسي وطلب العفو منه، إلا أنه أجابهم بالآتي: إنني راغب في الرحيل إلى دار الآخرة والمثول بين يدي الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم). فأنا بحاجة إلى جواز سفر فحسب للآخرة. ولا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني، وتجاه هذا الكلام يؤثر الجميع الصمت منتظرين النتيجة.

وتنهي المحكمة أعمالها بإصدار قرار الإعدام بموجب مادة إهانة القيصر والجيش الروسي. لم تكن تلك المرة الأولى التي يقضى عليه بالإعدام.وتحضر مفرزة يقودها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام. ويقوم بديع الزمان إلى الضابط الروسي قائلاً له بابتهاج: اسمحوا لي بخمس عشرة دقيقة فقط لأؤدي واجبي، فعلها قبله غير واحد من الصحابة والتابعين.

فيقوم إلى الوضوء وفي أثناء أدائه الصلاة، يحضر نيقولا نيقولافيج ويخاطبه:

أرجو منك المعذرة. كنت أظن أنكم قمتم بعملكم هذا قصد إهانتي، فاتخذت الإجراءات القانونية بحقكم، ولكن الآن أدركت أنكم تستلهمون هذا العمل من إيمانكم، وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم. لذا أبطلت قرار الحكم بحقكم. إنكم تستحقون كل تقدير وإعجاب لصلاحكم وتقواكم. أرجو المعذرة فقد أزعجتكم. وأكرر رجائي مرارًا: أرجو المعذرة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير