يقول النورسي عن هذه الظروف: «إن نصف دنياي الخاصة قد انهد بوفاة أمي، بيد أنى رأيت أن النصف الآخر قد توفي أيضًا بوفاة عبدالرحمن ـ ابن أخيه ـ فلم تبق لي إذًا علاقة مع الدنيا ... وبرغم أنني كنت أبذل الوسع لأتصبر وأتحمل ما كنت أعانيه من الآلام إلا أنه كانت هناك عاصفة قوية جدًا تعصف بأقطار روحي، فلولا ذلك السلوان النابع من نور القرآن الكريم يفيض على أحيانًا لما كان لمثلي أن يتحمل ويثبت».
وعلى ربا مدينة بارلا جعل يتدبر: «فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير». وكان من فيض الله عليه أن أملى أولى رسائل النور، ببركة التفكر في خلق الله.
ترهات بعض المتصوفة: حكى أحد طلاب النور ما دار بينه وبين النورسي:
ـ أستاذي، يقال إنه يظهر على يديكم كثير من الكرامات الغيبية، بيد أني لم أر أيًا من الأحوال الخارقة منكم، فإن كانت تلك الأحوال موجودة فعلاً، فأظهروها أمامي، ولتمش مسبحتكم هذه مثلاً.
تبسم الأستاذ، وذكر لي هذه الحكاية ليوضح الأمر:
ـ كان لأحدهم ولد يحبه كثيرًا، فهو وحيده، أخذه ـ ذات يوم ـ إلى محل المجوهرات ليشتري له بعض الهدايا الثمينة من الألماس والجواهر حسب رغبة ابنه المحبوب، تعبيرًا عن شدة حبه له. وكان صاحب المحل قد زين محله بنفاخات ملونة متنوعة على سقف المحل، ليلفت نظر الزبائن. وعندما دخل الطفل هذا المحل المزين بالنفاخات لفتت نظره ألوانها الجذابة، فقال باكيًا:
ـ أبي! أريد أن تشتري لي من هذه النفاخات .. أريد النفاخات ..
ـ يا صغيري الحبيب، سأشتري لك مجوهرات ثمينة وألماسات غالية. ولكن الطفل ألح في طلب النفاخات ..
وبعد أن أنهى الأستاذ هذا المثال قال:
أخي أنا لست إلا دلالاً في محل جواهر القرآن الكريم وخادمًا فيه، ولست ببائع نفاخات ملونة، فلا أبيع في محلي نفاخات، وليس في محلي وسوقي إلا الألماس الخالد للقرآن الكريم، فأنا منشغل يا أخي بإعلان نور القرآن.
بحث النورسي يومًا عن مسكن، فلم يجد سوى بيت يملكه رجل يدمن الخمر صباح مساء. وفي الصباح التالي كان المدمن يصلي الفجر خلف النورسي، ولم يذق بعدها خمرا أبدا. هكذا يكون إنقاذ الإيمان.
معلم لغة الإسلام: نشط النورسي في تعليم اللغة العربية في المدة الواقعة بين عامي 1930م و 1950م، وهي المدة التي شهدت ركودًا كبيرًا في تعليم العربية على مستوى الجمهورية التركية. ولاسيما بعد حظر الأبجدية العربية، بل حظر كل ما له صلة بالإسلام. فعن العرب قال: «يتوقف تقدم العالم الإسلامي ورقيه على تيقظهم وانتباههم» ثم أضاف: «إن الحمية الدينية والملية الإسلامية قد امتزجتا في الترك والعرب مزجًا لا يمكن فصلهما، وإن الحمية الإسلامية هي أقوى وأمتن حبل نوارني نازل من العرش الأعظم، فهي العروة الوثقى لا انفصام لها، وهي القلعة الحصينة التي لا تهدم».
إنني لا أذهب بعيدًا إذا قلت: ليت معلمي العربية لغير الناطقين بها ينهجون نهج النورسي، فإنه نهج يقوم على أسس، منها: صحبة التلميذ أستاذه. والربط الوثيق بين تعليم الدين وتعليم اللغة. وترتيب الدروس على مواعيد الصلوات. وتوظيف محصول الطلاب من الكتب التي يعرفونها بلغتهم الأم في دروس اللغة العربية. وممارسة النشاط اللغوي المتمثل في نسخ رسائل النور ومراجعة ما تنجزه المطبعة من ملازم، وتصحيحه على النسخ الأصلية. وحسن توظيف ما يعرفه الطلاب من الحروف العربية، ولاسيما الطلاب الناطقين بالأردية والفارسية والتركية العثمانية. كان يريد ـ بالإصرار على الكتابة بالحروف العربية ـ المحافظة عليها من الاندثار والنسيان، لأنها الحروف التي بها يكتب المصحف. وزوالها يعني استحالة كتابة المصاحف.
ومن تلك الأسس أيضًا الانغماس شبه التام في التعلم، فقد كان طلاب النورسي شبه ملازمين له، حتى في فترات سجنه ونفيه. و «اشتراك المساجد والمدارس الدينية ومعسكرات الجنود والسجون ومرافق المجتمع كافة في تعبئة عامة للتعليم». ووضوح الهدف لدى المعلم والمتعلم من عملية التعلم، وهو «استيعاب علوم القرآن وفهم النصوص الدينية المكتوبة باللغة العربية». وهو هدف يتسم بالوضوح والسمو معًا.
¥