بل الذي تقتضيه الأصول الصحيحة والأدلة الصريحة، أن الحق لا يتعدد في الفروع، كما لا يتعدد في الأصول، وأنه كمركز الدائرة، قد يصيبه ظن المجتهد، وقد يخطئه خطأً لا يخرجه من نطاق الدائرة، وقد يخرجه منها، وهذا يبين أن أقوال المجتهدين على مراتب مختلفة، بالنظر إلى وضوح الدليل وقوة الاستدلال به، فينبغي النظر في أدلة أقوالهم حرصاً على معرفة الحق، أو تمييز الراجح الصحيح منها، الذي يقوى الدليل في جانبه، ويضعف ما يُورد عليه من احتمالات وقوادح، كل ذلك مع مراعاة الأدب في الحجاج، وعذر المخالفين في اتباع مذاهبهم، ما لم يكن ذلك منهم عن تعصب وعناد للحق بعد ظهوره.
وهذا يتطلب تمرساً وحرصاً دائباً من طلاب العلم ومؤسساته، خصوصاً في هذا العصر، على النظرة الشاملة للفقه الإسلامي ومذاهبه، وألا يكتفي الإنسان بالاقتصار على كتب مذهب بعينه لا يخرج عن نطاقها، فإن في هذه الشمولية حافزاً للَمَّ شمل المسلمين والتقريب بين آراء ذوي العلم فيهم، إزاء ما يعترض الأمة من القضايا والمشكلات والنوازل، كما يتطلب من المجامع الفقهية أن توسع دائرتها فيما تقوم به من بحوث ودراسات، فإنها تدرس باسم الأمة، وتقرر باسمها، فينبغي ألا يظهر القصور في دراستها المؤدية إلى قراراتها.
وهذا المسلك الأصيل الذي يعد ابن عبدالبر أنموذجاً واضحاً له، كان ذاته مسلكاً لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى.
وهو مسلك تختفي فيه المذهبية الضيقة، وتتجلى فيه الشمولية الواسعة، فليست السنةُ أمراً يخص أهل الحديث والأثر فقط، والفقهُ أمراً آخر يخص أهل الرأي والنظر فقط.
بل إنما يتشقق الفقه من السنة، وينبني الرأي والنظر على الحديث والأثر.
نعم، ليس بممتنع أن يتقاسم علماء الإسلام فنون الشريعة، فيتخصص بعضهم في بعضها، وبعضهم الآخر في بعضها الآخر، ولكن أن يصير التخصص سمة فارقة في الواقع العملي، فهذا ما كان ابن عبدالبر وابن تيمية يحذران منه، ويدعوان إلى التغلب على آثاره السيئة في الأمة، ولو أن دعوة شيخ الإسلام كانت أظهر وأقوى، لأن أهل زمانه كانوا أحوج إلى صرخة توقظهم من غفلتهم، من أهل زمان ابن عبدالبر.
وهذا التوافق بين الحافظ ابن عبدالبر وشيخ الإسلام ابن تيمية، في الوقوف من المذاهب موقف الاستشراف والإنصاف، يرجع في بعض أسبابه إلى التوافق بين المذهبين اللذين ينتسبان إليهما في الأصل، مذهب مالك وأحمد رحمهما الله:
فمع أن الأول نشأ في المدينة النبوية في منتصف القرن الثاني، ثم ترعرع وانتشر في مصر والمغرب والأندلس.
ونشأ الآخر في بغداد في بداية القرن الثالث، ثم امتد إلى الشام ومصر والحجاز.
فإن لنا أن نعد من التوافق بينهما أنهما المذهبان اللذان يعد إماماهما محدثين فقيهين في آن واحد، وأن فقههما نشأ في بدايته في شكل مسائل قيدت أجوبتها من أسمعة عدد من التلاميذ والأصحاب، ثم جمعت واختصرت، وكان هذا سبباً في اتسام المذهبين بكثرة الرواة واختلاف الرواية، وحاجتهما إلى الجمع والتلخيص والتحرير فيما بعد، ولذلك يجد المرء تشابهاً نسبياً بين ما عمله أبو محمد بن أبي زيد القيرواني، حين اختصر مدونة سحنون، ثم ضم إليها كتابه الكبير الجامع: (النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات) وبين ما عمله أبو بكر أحمد بن هارون الخلال في كتابه الجامع. فإن الأول جمع في كتابيه هذين زبدة ما كان متفرقاً في كتب أخرى قبله، فكان عمدة لمن جاء بعده في معرفة الروايات والأقوال في مذهب عالم المدينة.
وكذلك الخلال جمع في كتابه معظم المسائل المسموعة من الإمام أحمد، المدونة منها وغير المدونة، فكان كتابه أساساً لمعرفة الروايات عن إمام السنة في وقته.
ومن ذلك التوافق أيضاً كراهية كل من مالك وأحمد للغلو في الرأي من غير ضرورة، وإيثار الأثر ما أمكن، والاشتداد على البدع وأهلها.
¥