بهذا الإيجاز ينبغي لنا أن نفهم ((قضية التراث الإسلامي))، ونقف على أبعادها ..
فليس حقًّا مكتسبًا ولا إرثًا متوارثًا لكلِّ البشرية، وإنما هو ميراث المسلمين وحدهم دون غيرهم، وحقُّ المسلمين وحدهم، لا يُنازعهم فيه منازع.
لأنه دينهم؛ فهو حقّهم ..
هم الذين قاموا به قديمًا، تدوينًا وحفظًا ورعايةً وترميمًا حتى وصل إلينا، وهم الذين وضعوا قواعد العناية به، فألَّفوا في علوم الجرح والتعديل، وتكلموا على ما يلحق ذاكرة حامل ((التراث = الدين)) من ((وهم، وغفلةٍ، ونسيانٍ))، وما يلحق البصر من ((تصحيفٍ وتحريفٍ))، وما يلحق اليد من ((أساليب الكتابة)).
كما تكلموا عن أصول حفظ النُّسَخِ الحديثية، والمخطوطات التراثية، فتكلموا على ((السماع، والإجازة)) وغيرها من ((أساليب التَّحَمُّل والرواية))، والتفتوا إلى أصحاب الأعذار الذين يحملون العلم، فكتبوا في ((كتب الضرير)) وكيفية حفظها ورعايتها والعناية بها، ومتى تحصل الثقة بها؟ ومتى تهتز الثقة بها؟
هم الذين وضعوا قواعد ((الإملاء والاستملاء)) على حد عبارة السمعاني في عنوان كتابه ((أدب الإملاء والاستملاء))، فجمعوا أصول ((الراوي والسامع)) وكتبوا ((الكفاية)) في كل فنون ((التوثيق والتدقيق))، حتى صاروا هم وحدهم أصحاب ((مناهج التوثيق والتأريخ)).
وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا لا تُفَرِّق بين ((البعرة والبقرة)) ولا تعرف شيئًا عن كَتَبَةِ ((التوارة والإنجيل))، ولا أين وكيف كُتِبَا؟ ولا ما زاده الْكَتَبَة من عندهم، وما زاده غيرهم .. إلخ.
في الوقت الذي كانت ولا زالت أوروبا تحيا هذا الواقع الغريب على العقل والعلم، كان المسلمون ولا زالوا ينعمون بأسس ((التوثيق))، لكافة المعارف والعلوم، وقد شَرَّفَهم الله عز وجل واختصهم من بين أمم الأرض بشرف بقاء الإسناد، كابرًا عن كابرٍ، نروي به كتبنا وديننا، قرآنًا وسنةً، ولدى المسلمين الآن من هذه الأسانيد الشيء الكثير بحمد الله عز وجل، يَرْون بها دينهم، قرآنًا وسنةً.
وقد حرص المسلمون على طول تاريخهم الطويل على الذَّوْد عن حياض تراثهم العريق ضد أخطاء الذهن الناتجة عن الوهم والنسيان، أو المتعمَّدة الناتجة عن الكذب والوضع، كما حرصوا على حمايته من النفوس الخبيثة الشريرة، فحذروا من ((ورَّاقين السوء)) خونة النَّسْخ والكتابة، الذين يُدْخِلون في الكتب ما ليس منها، وأبعدوهم وهجروهم، كما حذَّروا من أمثالهم في الرواة وغيرهم ..
واحتاطوا لتراثهم أشد الحيطة فتكلموا عن طريقة حفظه ومدارسته، حتى وصل الحال بالكلام عن ((طي الورقة)) أثناء القراءة والمطالعة كما يفعله الناس هذه الأيام، فذكر أئمتنا الكرام ذلك في كتبهم، وطالبوا القارئ بأن يكتب ((بلغ)) ليعرف الموضع الذي وصل إليه، قارئًا كان أو معارضًا، أو مدقِّقًا، وحَذَّروه من ((طي جزء من أعلى الورقة)) حفاظًا على ورقة المخطوط، وخشية ضياع أو طمس بعض الكلمات في الجزء ((المطوي)).
وتكلموا عن طريقة الضرب على الكلام، وذكروا الشّق واللحق وغيرها من المصطلحات الدالة على تفوُّقِ المسلمين في فنون التوثيق والتدقيق، وعنايتهم العظيمة بتراثهم العريق.
بل وصلت بهم العناية والدقة إلى الكلام عن الحبر المستخدم في الكتابة، وكيفية الوقوف من خلاله على أمورٍ مؤثِّرةٍ في التعريف بالمخطوط مثلاً، فذكروا ضرورة النظر في الحبر المكتوبة به النسخة، فإِنِ اختلف الحبر، أو صار طريًّا أو حديثًا في موضعٍ عن باقي المواضع استنكروا ذلك ورفضوه وعارضوه، إلا أن تقوم قرينةٌ ويثبت برهانٌ ساطعٌ على سبب هذه المشكلة، فإن لم يثبت لديهم دليل القبول فالرفض سبيلهم، صيانةً للتراث العظيم.
بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من هذا فتكلموا على طريق ((بري القلم)) (البوصة) أو (الريشة) وطريقة الإمساك بها!!
فوصلنا تراثُنا رغم كل العوادي التي صادفته وكأنَّه اليوم يُكْتَب، لم يُزَد في كتب الإسلام ما ليس منها، كلا؛ ولم ينقص منها.
فما أَلَّفَه البخاري نحن نعرفه، وما ألَّفَه مسلمٌ لدينا أخباره، وهكذا ..
نعرف تراثنا، كما نعرف أولادنا، بل أشد؛ لأنه ديننا ..
¥